ورقة بحثية : كسر حلقة العنف في ليبيا .. مواجهة التعذيب
شكلت الصراعات المستمرة وعدم الاستقرار السياسي بيئة خصبة لتفشي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في ليبيا، ومنها التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية. فقد شهدت فترة القذافي استخدام التعذيب الجسدي والنفسي بصورة ممنهجة وعلى نطاق واسع ضد المعارضين السياسيين أو الذين اعتبروا خطرًا على النظام الحاكم، كما أصبحت مراكز الاحتجاز السرية، ومنها سجن “بوسليم”، مرادفة لأعمال لا توصف من القسوة والوحشية في مواجهة جل المقيدة حريتهم، حيث أفرطت الأجهزة الأمنية في استخدام وسائل العنف والتنكيل كالصدمات الكهربائية والاحتجاز المطول بمعزل عن العالم الخارجي والاعتداءات الجنسية، وذلك لخلق مناخ من الخوف يُمكنه من إحكام السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد.
لم يتحسن الوضع كثيرًا بعد الإطاحة بالقذافي؛ فقد شهدت السنوات التالية انتشار التعذيب وسوء المعاملة، لكن في سياقات مختلفة وبواسطة أطراف متعددة. ففي أعقاب 17 فبراير، لجأ كثير من الجماعات والفصائل المسلحة، بجانب أجهزة الدولة، إلى استخدام التعذيب وسيلةً لممارسة السلطة واستقاء المعلومات والاستمرار في تعزيز ثقافة الخوف. وأدى انتشار هذه المجموعات، بجانب ضعف مؤسسات الدولة، إلى تهيئة مناخ يسوده الإفلات من العقاب في ظل ندرة الملاحقات القضائية لمرتكبي جرائم التعذيب.
وفي هذا السياق، وثقت البعثة المستقلة لتقصي الحقائق بشأن ليبيا (البعثة)، احتجاز آلاف الأشخاص في مرافق رسمية وغير رسمية تفتقر إلى الرقابة والرصد المناسبين، وذلك دون توجيه اتهامات أو عرضهم على القضاء للبت في أمرهم، بجانب تعرض كثير منهم للتعذيب؛ والعنف الجنسي؛ والتجويع؛ والاحتجاز في ظروف غير صحية؛ وعدم توفير الرعاية الطبية. وقد انتهت البعثة إلى أن الأعمال غير الإنسانية المشار إليها سبق ارتكابها ضد أشخاص يشكلون تهديدًا لقيادة الدولة أو لمصالح المليشيات وعقائدها، بما فيها الآراء الدينية أو الأخلاقية. وأكدت أنه لا يمكن توصيفها بالحوادث العشوائية استنادًا إلى تقارير عدة أبرزت استخدم السجون، كمعيتيقة وغنيوة والكويفية، وقرنادة وغيرها من أماكن الاحتجاز الأخرى، في استخدام العنف بشكل منهجي ضد السجناء. ولم يسلم طالبو اللجوء والمهاجرين، ومنهم العمال المهاجرون وأسرهم، من انتهاك الحق في سلامة الجسد في أماكن الإيواء وخارجها على يد جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية والجماعات المسلحة والإجرامية، خاصة أولئك الآتين من إفريقيا وينتمون إلى أقليات دينية، لا سيما المسيحيون.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لمعالجة ظاهرة التعذيب في ليبيا بإصدار المؤتمر الوطني العام القانون رقم 10 لسنة 2013 بشأن تجريم التعذيب والإخفاء القسري والتمييز، لكنه لا يلبي الحد الأدنى من الحماية المقررة للحق في سلامة الجسد والحماية من التعذيب. ومع افتراض توافق القانون مع التزامات ليبيا بموجب القانون الدولي، فإنه سيقف عاجزًا لا محالة في ظل عدم الاستقرار السياسي الذي ساهم في خلق حكومات وسلطات فعلية متشرذمة غير قادرة على تقديم الخدمات الأساسية وإعلاء سيادة القانون ومبادئ الديمقراطية في ظل غياب نظام قضائي فعال. هذا بجانب انتشار السلاح في كافة أرجاء البلاد، وتفتت الأجهزة الأمنية وانقسامها لمجموعات وفصائل مسلحة، ومن ثم إعادة إدماجهم في مؤسسات الدولة دونما تدقيق لضمان استبعاد العناصر المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان، وجميعها، بجانب بعض العوامل الأخرى، شكلت تحديات كبرى يتعين على صناع القرار التعاطي معها لمعالجة ظاهرة التعذيب وتعزيز احترام حقوق الإنسان في ليبيا.
وتتطلب مكافحة التعذيب اتخاذ إجراءات وتدابير على مختلف الأصعدة، ومنها القانونية والمؤسسية والثقافية. فعلى الصعيد القانوني، تشمل الوقاية من التعذيب إنشاء أطر تشريعية تتواءم مع التزامات ليبيا بموجب القانون الدولي بما يضمن التحقيق في جرائم التعذيب ومحاسبة مرتكبيها وتعويض الناجين وإعادة تأهيلهم، وضرورة عدم خضوعها للعفو أو التقادم أو الحصانة، كما تتطلب أيضًا توفير إطار قانوني فعال لحماية المبلغين والشهود من بطش السلطة، وأخر لحماية المهاجرين وطالبي اللجوء، بما يضمن عدم طردهم أو إعادتهم أو تسليمهم إلى دولهم أو دول أخرى إذا كانوا سيواجهون خطر التعرض للتعذيب. هذا بالإضافة إلى توفير إطار قانوني يتوافق مع المعايير الدولية لحرية تكوين الجمعيات بما يضمن توفير بيئة آمنة لمنظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان، مع ضرورة تنقية التشريعات الجنائية، وفي مقدمتها قانون العقوبات، من كافة النصوص المعيقة لعملهم.
وعلى الصعيد المؤسسي، وفيما يخص القضاءـ تتجاوز الحالة في ليبيا مسألة الاستقلال والحياد، وأصبحت الأولوية هي تمكين أعضاء الجهات والهيئات القضائية من أداء عملهم بفعالية وتوفير الحماية لهم ولساحات التقاضي من استهداف المجموعات المسلحة وغيرها من الجهات الفاعلة الأخرى، حيث شهدت سنوات ما بعد فبراير 2011 تعرض بعض القضاة ووكلاء النيابة لاعتداءات ممنهجة وصلت إلى حد الاغتيال والخطف والتهديد بالقتل، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى انعدام ثقة المواطنين في مرفق العدالة وإحجامهم عن الاحتكام إليه، بما زاد من تفشي حالات الإفلات من العقاب. هذا بجانب إصلاح الشرطة القضائية حيث ضمت إلى صفوفها آلاف الأفراد المنتمين إلى مجموعات مسلحة أدمجوا بدون برنامج تدقيق شامل، وافتقارها القدرات والموارد والمعدات اللازمة لأداء مهامها على أكمل وجه.
وفي هذا السياق، يتعين وضع استراتيجية واضحة لغلِّ يد الفصائل المسلحة والسلطات الفعلية عن السيطرة على السجون وأماكن الاحتجاز، بما فيها المخصصة للمهاجرين وطالبي اللجوء، مع ضمان خضوعها للإشراف القضائي الكامل لضمان التفتيش الدوري عليها والتحقُّق من معاملة المحتجزين معاملة إنسانية. هذا بجانب تدريب القضاة وأعضاء النيابة، وموظفي إنفاذ القانون سواء أكانوا من المدنيين أم العسكريين، والطواقم الطبية، والموظفين العموميين وغيرهم ممن تكون لهم علاقة باحتجاز الأشخاص على احترام مبادئ حقوق الإنسان وحظر التعذيب وغيره من أشكال المعاملة القاسية وضمان إدراكهم لالتزاماتهم بموجب القانون الوطني والدولي.
أما على الصعيدين السياسي والثقافي، فيتطلب منع التعذيب إدانة واضحة من قبل المؤسسات السياسية وصناع القرار وعدم التسامح معها تحت أي قيد أو شرط، بما في ذلك الظروف الاستثنائية. هذا بالإضافة إلى تعزيز احترام ثقافة حقوق الإنسان والمساواة وعدم التمييز ونبذ العنف، عن طريق تنظيم حملات التوعية بتبعات التعذيب وآثاره وأهمية احترام الكرامة الإنسانية.
تناقش محاور هذه الورقة أسباب التعذيب في ليبيا وآثاره وتضع الاستراتيجيات التي يمكن استخدامها لمنع حدوثه وذلك من خلال تحديد التحديات التي تساهم كثيرًا في انتشار التعذيب.
شكرا جزيلا على اهتمامكم