ندوة : مناقشة معمقة للتحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا بعد 12 عاما من الثورة
17 فبراير 2023
نظم مركز مدافع لحقوق الإنسان، الخميس 2 فبراير 2023، ندوة رقمية لمناقشة الورقة البحثية “العدالة الانتقالية في ليبيا – مسارات مرتبكة“، والتي أصدرها المركز في إطار أنشطته البحثية المعنية بدراسة التحديات التي تواجه حماية حقوق الإنسان وتعزيز جهود العدالة والمحاسبة وفرص التحول الديمقراطي. وقد تحدث في الندوة كلا من مؤلف الورقة البحثية الدكتور سليمان إبراهيم، أستاذ مشارك القانون الخاص ومدير مركز دراسات القانون والمجتمع بجامعة بنغازي، وقام بالتعقيب على الورقة المحامي الحقوقي ووزير العدل الأسبق الأستاذ صلاح المرغني. وقام بإدارة النقاش رجب سعد مسؤول قسم الأبحاث والدراسات في مركز مدافع. كما شارك في الندوة مجموعة من المحامين والباحثين والمدافعين عن حقوق الإنسان والأكاديميين والدبلوماسيين.
افتتح سعد الندوة بالإشارة إلى التحديات الكبرى التي تواجه تعزيز حقوق الإنسان والعدالة في ليبيا، بالرغم من مرور نحو 12 عام على اندلاع الثورة. حيث يظهر بوضوح غياب الإرادة السياسية في ليبيا لتحقيق العدالة وحماية واحترام حقوق الإنسان. وأضاف سعد أنه حين تم إنشاء البعثة المستقلة لتقصي الحقائق في ليبيا في 2020 بقرار صادر من مجلس حقوق الإنسان، تمكن الأمل الزائف من البعض حين تصور أن هناك بارقة أمل في أن السلطات الليبية ستقوم أخيرًا بدعم جهود توثيق انتهاكات حقوق الإنسان ووضع حجر الأساس للمحاسبة على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ولكن شهدنا جميعًا كيف أن السلطات الليبية لم تقدم الدعم الكافي لعمل البعثة، وفي العام الماضي قررت ألا تدعم تمديد ولاية البعثة ووافقت بعد جهود مضنية على دعم تمديد ولايتها لمرة أخيرة، لينتهي عمل البعثة في مارس 2023، دون وجود آلية دولية مهنية أخرى تواصل العمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا.
وأشار سعد إلى أن الليبيون انتبهوا منذ وقت مبكر إلى أهمية وجود قانون للعدالة الانتقالية لتحقيق العدالة والمحاسبة على الانتهاكات لجسيمة لحقوق الإنسان وجبر ضرر الضحايا. حيث شهدت ليبيا إصدار عدة قوانين للعدالة الانتقالية، من بينها إصدار المجلس الوطني الانتقالي القانون رقم (17) لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، والقانون الذي أصدره المؤتمر الوطني العام وهو القانون رقم (29) لسنة 2013 بشأن العدالة الانتقالية، وأضاف أنه مؤخرًا يتم الإعداد لقانون جديد لتحقيق العدالة الانتقالية تحت اسم “إصلاح ذات البين” وذلك برعاية المجلس الرئاسي وفي إطار رؤيته الاستراتيجية لمشروع المصالحة الوطنية في ليبيا. وأكد سعد أن لدى البعض انتقادات لمشروع القانون، حيث يرون أن المشروع يركز على المصالحة والعفو في مقابل إبداء قدر أقل من الأهمية لمسألة المحاسبة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وفي هذا السياق، أشار سعد إلى أن مركز مدافع قد نظّم في أكتوبر 2022 ندوة لمناقشة مشروع قانون إصلاح ذات البين، وذلك بمشاركة مجموعة من الخبراء المشاركين في إعداد مشروع القانون، ومن بينهم دكتور سليمان، كما شارك في النقاش عدد من المنظمات الحقوقية الليبية والإقليمية والدولية وخبراء معنيين بالعدالة الانتقالية في ليبيا.
بدأ الدكتور سليمان إبراهيم كلمته بالتأكيد على بروز أهمية العدالة الانتقالية بعد ثورة فبراير 2011، كما يدل على ذلك كم ونوع (مشروعات) التشريعات التي ظهرت مذ ذاك الحين، وأن إشكالات رئيسة قد واجهت سن وتطبيق هذه التشريعات. وفي السنوات الأولى، تأثرت السلطات الانتقالية عند تعاملها مع هذه الإشكالات بنزعة ثورية تمظهرت في سعي للقطع مع النظام السابق، تشريعات ومؤسسات وأشخاص، قبل أن تنتهج في السنوات اللاحقة نهجاً مخالفاً من انعكاساته مراجعة للتشريعات الثورية والسعي للاستعاضة عنها بأخرى تصالحية مع النظام السابق. وأشار إبراهيم في معرض التمثيل على كلا النهجين إلى تشريعات المجلس الوطني الانتقالي، والمؤتمر الوطني العام، ومجلس النواب.
وسلّط إبراهيم الضوء على التباين الحاصل بين الليبيين حول أهمية تطبيق العدالة الانتقالية، والجدل القائم بين المشككين في جدواها والمؤيدين لها، مشيرا إلى أن الحاجة إلى العدالة الانتقالية اليوم تعزي إلى فشل العدالة التقليدية في التصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومحاسبة الجناة. وكشف في مداخلته عن أن التعقيدات التي تطال مفهوم العدالة الانتقالية، تتجلى في تباين الآراء حول قضايا من أهمها نطاقها الزمني؛ فهناك، عل» سبيل المثل، من يرى أن تدابير العدالة الانتقالية يجب أن تشمل فترة الحكم الملكي، وهناك من يربطها بفترة حكم القذافي، وهناك من يؤكد أن فترة ما بعد فبراير 2011 شهدت هي الأخرى انتهاكات لا تقل جسامة عن، بل ربما تتجاوز، ما وقع قبلها.
وشدد إبراهيم على أن معرفة الحقيقة هي حق للضحايا، مستشهدا بتقرير للمفوضية السامية لحقوق الإنسان يؤكد “أن الحق في معرفة الحقيقة هو حق غير قابل للتصرف”. غير أنه طرح إشكالية أن “العفو” الذي تعددت التشريعات المنظمة له وفقًا للسياقات السياسية التي تمت فيها صياغة التشريعات قد يشكل عائقاً دون كشف الحقيقة، هذا فضلا عن إشكاليات تتعلق بحصر جبر الضرر في التعويضات النقدية، واختزال الإصلاح المؤسسي في العزل السياسي، والأداء المنتقد للقضاء الوطني في معالجة قضايا عدل-انتقالية رئيسة، ضاربا المثال بالحكم الذي أصدرته محكمة استئناف طرابلس بالإعدام على متهمين من بينهم سيف الإسلام القذافي، والحكم الصادر عن ذات المحكمة بتقادم قضية مذبحة سجن أبو سليم، وهو ما دفع البعض للمناداة بالاستعانة بقضاء دولي خالص أو مختلط. ولفت إبراهيم الانتباه إلى أن أكبر التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية هو تقديمها باعتبارها منافية للمصالحة الوطنية.
وفي تعقيبه على مداخلة الدكتور إبراهيم، ثمن المحامي الحقوقي ووزير العدل الأسبق صلاح المرغني العمل الذي قدمه المتحدث وأثنى على الجهد الكبير المبذول من فريق مركز دراسات القانون والمجتمع بجامعة بنغازي والعمق الذي تناول فيه العدالة الانتقالية، ورأى أن مشروع الدفع الأخير بالمصالحة الوطنية. والعدالة الانتقالية أغفل دعم أهمية تطبيق عدد من التشريعات الهامة القائمة والمقترح والبناء عليها والتي من شأنها أن تدفع العجلة إلى الأمام مصالحة وعدالة وعلى رأسها قرار مجلس الوزراء رقم 119 لسنة 2014، الذي تعامل مع ضحايا العنف الجنسي، ومشروع قانون الجمعيات. وقال المرغني إن ليبيا اليوم في وضع استثنائي تحتاج فيه إلى قوانين تحمل أفكارا خارج المألوف والى حلول مبتكرة. وأشار المرغني إلى أن الأصل في جبر الضرر عبر “مشروع التعويض”، يتطلب تقييما واقعيا وعادلا كمثال رد العقارات المغتصبة وليس التعويض عنها وليكون التعويض للأسر التى تشغل العقارات من خلال المشاريع الإسكانية والقروض ووسائل التعويض الاخرى لإيجاد البديل المناسب عن الأضرار التي نتجت عن المظالم السابقة مشيرا في هذا السياق إلى أن الدولة عجزت عن تعويض ما يزيد عن 12 ٪ من القيم المستحقة لسجناء “ابي سليم” (حتى وقت انهيار بنيان السلطة الواحدة في 2014 ) الذين تمكنوا من الحصول على قانون لتعويضهم في مرحلة مبكرة رغم انا الدولة الليبية تقف الان امام كم هائل من المظالم التى تحتاج لتعويض كبير ومعالجات بعقل وقلب مفتوح
وأثار المرغني مشكلة التغاضي عن البعد الديني في مشروع العدالة الانتقالية الذي تم تبنيه، معتبرا أن البعد الديني، ينص على المصالحة وعلى العدل في نفس الوقت. وانتقد المرغني دور المؤسسات الدينية في ليبيا، والتي وصفها بأنها تتجه في مناحي مغايرة لمبادئ الدين في المصالحة والعدالة إذ أصبحت مؤسسات تحريضية، معتبرا أنه بالإمكان التوجه في مسار البعد الديني التصالحي والذي ينص على العدل في سياقه عند اقتتال الأمة. أما في يخص القضاء الوطني، اعتبر المرغني، بحكم خبرته التي تمتد لنصف قرن في دهاليز القضاء والمحاكم الليبية منذ 1972أن القضاء، يستحيل عليه في وضعيته الحالية وفي ظل البيئة السياسية والأمنية القائمة، التعامل مع قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إذ أن الانقسام والصراع في ليبيا أصاب معايير التقييم لدى الكثيرين الخلل؛ الأمر الذي يجعل من المجرم عند طرف هو البطل في نظر الطرف الآخر. وتساءل المرغني: كيف سيتعامل القضاء الوطني مع ذلك الوضع المربك والمعقد؟ وأضاف المرغني أن التجربة تؤكد أن رفع العبء عن القضاء الوطني في مثل هذه القضايا، يمكن أن يخفف عليه ليتمكن من النظر في القضايا الأخرى. واستشهد بالتجربة الرواندية التي رفعت هذا العبء عن قضائها، ونجحت في أن تُمكّن القضاء من التعامل مع القضايا التي يمكن النظر فيها، الأمر الذي سمح بعدم تعطيل العدالة في كافة الميادين.
وشكك المرغني في قدرة القضاء في أن يُلزم (ثورا) ضباطا وشيوخا بالامتثال أمام المحاكم للبت في قضايا جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وقال إن “القضاء الوطني لا يستطيع أن يتعامل مع المتهمين الحقيقيين في قضايا جرائم الحرب وضد الإنسانية، وحتى النصوص القانونية لا تسمح بالتعامل مع الكثير من القضايا، مثل قضية سجن أبو سليم التي قتل فيها أكثر من ألف شخص، وصدر الحكم فيها بالتقادم.
وقال مروان الطشاني، الباحث الحقوقي والقاضي الليبي السابق، أنه بمجرد تصدر وتبني طرف سياسي واحد لمفهوم العدالة الانتقالية يخرج المسار بأكمله عن موضوعيته وحياده، وذلك في إشارة إلى المجلس الرئاسي الذي يشرف على خدة للمصالحة الوطنية، بما في ذلك مشروع قانون إصلاح ذات البين. وأشار الطشاني إلى أن مؤتمر المصالحة لم يخضع لمعايير واضحة للأطراف المتدخلة، وشهد تغييب صوت المجتمع المدني والضحايا.
وأضاف الطشاني إلى أن كل ذلك يؤثر على مسار العدالة الانتقالية، في ظل غياب سلطة واحدة منتخبة من الشعب، حيث تبقى الجهة المشرفة، متأثرة بالاستقطاب؛ وذلك بغض النظر عن القيمة العلمية والجهود البحثية للخبراء المشاركين في صياغة الرؤية الاستراتيجية للمجلس.
واعتبر زاهي المغيربي، الخبير السياسي والأستاذ السابق للعلوم السياسية بجامعة بنغازي، أن الحديث عن مفهوم العدالة الانتقالية بحد ذاته لا يمكن إلا في ظل وجود دولة، أو حد أدنى من السلطة مسيطرة على كل أطراف الدولة. أما في ظل وجود حكومات متنافسة فلا يمكن تحقيق العدالة الانتقالية، التي تتعلق بإجراءات ومسارات مختلفة عن مسارات العدالة التقليدية، وتسعى إلى المحاسبة وإنهاء الإفلات من العقاب، وذلك في جرائم حرب، والجرائم ضد الإنسانية. وأشار المغيربي إلى أن العدالة الانتقالية مرحلة مهمة وملحة لكن يبقى هدفها الأسمى هو المصالحة الوطنية، كما أكد أن مسألة العفو مرتبطة أيضا باعتراف الأطراف المتورطة في ارتكاب هذه الجرائم.
وأكدت انتصار البرعصي، الكاتبة والصحفية الليبية، أن مثل هذه الأبحاث الصادرة عن المنظمات الحقوقية تمثل أهمية كبيرة للصحافة الليبية، مشيرة إلى أن الصحافة في السنوات الأخيرة ساهمت في تعميق الانقسام، في ظل الاستقطاب القائم. وأكدت غياب الصحافة المستقلة في ليبيا، والتي كان يمكن لها المساهمة بشكل إيجابي في المصالحة الوطنية. وأكدت البرعصي أن مفهوم وإجراءات العدالة الانتقالية، بحاجة إلى إعلام مستقل سياسيا عن جميع الأطراف، بهدف تنوير الرأي العام ولعب دوره الأساسي في دعم جهود احترام حقوق الإنسان ودعم مساعي المصالحة الوطنية.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!