حقوق أبناء وبنات المواطنات الليبيات المتزوجات من أجانب ما بين المنح والمنع
قرار حكومة الوحدة الوطنية رقم ٢٠٩ لسنة ٢٠٢٢ وأثره في المركز القانوني لأبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب
خديجة البوعيشي- 3 فبراير 2023
خبيرة في سيادة القانون
صدر مؤخرا القرار رقم ٢٠٩ لسنة ٢٠٢٢ عن رئاسة حكومة الوحدة الوطنية فيما يتعلق بمنح أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب كافة حقوق المواطنة. هذا القرار الذي تم استقباله ما بين مبتهج بمنجز حقوقي وما بين مشكك في وقت إصدار القرار ونيَّات مصدره والنقاش بخصوص الآثار القانونية المترتبة عنه وأثره في المركز القانوني لأبناء وبنات المواطنات الليبيات المتزوجات من أجانب. وقد أعاد القرار إلى الواجهة مرة أخرى الجدل القديم الجديد المتجدد بخصوص حق الليبيات في نقل جنسيتهن لأبنائهن أسوة بالمواطنين الليبيين ممن يتمتعون بحق نقل جنسيتهم لأبنائهم دون قيد أو شرط.
لمناقشة الآثار القانونية المترتبة على هذا القرار وأثرها في المركز القانوني لأبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب سيعالج هذا المقال المسألة -أولًا- من حيث توضيح الأساس القانوني المنظم لرابطة الجنسية في ليبيا الذي بناء عليه يتم تحديد المواطنين والمواطنات من الأجانب، ثانيًا، يلي هذا استعراض بعض القوانين التي حصرت التمتع بالحقوق في حاملي الجنسية الليبية دون غيرهم، ومدى امتداد هذه الحقوق لأبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب، ثالثًا، سنتناول بالدراسة الآثار القانونية للقرار الصادر عن حكومة الوحدة الوطنية على مركز أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب من ناحية تمتعهم بحقوق المواطنة، كل ذلك سيكون في ضوء التشريعات الوطنية الليبية من قوانين ولوائح وبالتعريج على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ذات الصلة بالموضوع.
يقصد بالجنسية رابطة قانونية وسياسية ما بين الفرد والدولة بناء عليها يتحدد ركن الشعب في كل دولة، وهذه الرابطة يبني عليها المشرع الوطني آثارًا قانونية من أهمها تمتع من يكتسب جنسية الدولة بحقوق المواطنة فيها. لقد نظم المشرع الليبي الجنسية الليبية وشروط الحصول عليها وفقًا لعدة تشريعات، آخرها -وهو المعمول به حاليا القانون رقم ٢٤ لسنة ٢٠١٠- الذي نصّ في المادة ٣ منه على أنه يُعَدُّ ليبيًّا كل من ولد في ليبيا لأب ليبيٍّ إذا كان جنسية والده مكتسبة بحكم مولده فيها أو تجنسه، كما نصّت ذات الفقرة على أنه من يُولد خارج ليبيا لأب ليبيّ يُعَدّ ليبيّا إذا سجلت ولادة الابن خلال سنة من تاريخ حصولها لدى السفارة/القنصلية الليبية بالخارج.
بناء على ما ورد في المادة أعلاه، فإن التمتع بالجنسية الليبية “التعميرية” يكون إما استنادًا لحق الدم فقط من ناحية الأب بناء على الولادة لأب ليبي في ليبيا أو خارجها، بل إن المادة أقرت أنه يعد ليبيّا بقوة القانون ابن المواطن الليبي بغض النظر عن جنسية والدته وعن مكان ميلاده، بل أيضا بغض النظر عن كونه قد يتجنس بجنسية أخرى بحكم ميلاده في بلاد أجنبية خارج ليبيا أو بحكم اكتسابه جنسية والدته، في حين تجاهل المشرع الليبي في هذا القانون النص على اكتساب الجنسية الليبية استنادًا لحق الدم من جهة الأم.
ولتلافي هذه الثغرة التمييزية ضد المرأة الليبية حاول المشرع أن يملأها بطريقة معيبة وفقًا لنص المادة ١١ من قانون الجنسية التي نصت على “جواز” منح أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب الجنسية الليبية وفقًا لشروط ترد في اللائحة التنفيذية، ومن ثم فإن الجنسية لا تنتقل بصورة تلقائية، وإنما تتطلب توافر شروط معينة واتباع إجراءات لاحقة والحصول على موافقة لنقل الجنسية ليُعَدّ ابن أو ابنة الليبية مواطنًا في ليبيا، بخلاف الوضع فيما يتعلق بأبناء المواطن الليبي.
وبالرجوع إلى اللائحة التنفيذية والاطلاع على الشروط نلاحظ أنه وفقًا للمادة 6 من اللائحة اشترطت العديد من الشروط من ضمنها تقديم مستندات كموافقة الجهة المختصة في وزارة الشؤون الاجتماعية على الزواج وموافقة الوالدين وشهادة جنسية الأم، أما إن كان الأبناء ممن هم دون سن الرشد فبالإضافة للشروط السابقة اشترط وفاة الأب أو تبوث فقده بحكم قضائي، بل إنه -وبالرغم من كل هذه الشروط، وحتى إن توافرت جميعا- يبقى البتّ في الأمر جوازيًّا للسلطات المختصة، لها أن توافق أو ترفض منح الجنسية.
ومن ثم فمن منظور قانوني وحقوقي، فإن هذه النصوص الواردة في قانون الجنسية واللائحة تتعارض صراحة مع الإعلان الدستوري الليبي وأيضا مع الالتزامات الدولية على ليبيا، فإن كان الإعلان الدستوري في مادته السادسة نصَّ صراحة على أن الليبيين متساوون أمام القانون ومتساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية …. إلا أن اشتراط شروط معينة على المواطنات الليبيات دون المواطنين الليبيين في نقل جنسيتهن لأبنائهن وبناتهن يمثل تمييزا استنادا للجنس وهو ما يُعَدّ متعارضًا مع ما ورد في الإعلان الدستوري الذي كان من المفترض أن يتم تعديل كل القوانين التي تتعارض معه بعد صدوره، إلا أن صناع القرار في ذاك الوقت لم يعدلوا إلا القوانين التي كانت تحمل بعض المكتسبات الحقوقية للمرأة والتعديل كان بنزع تلك المكتسبات وإلغائها دون ما عداها من قوانين تمييزية.
كما أنه وفقًا لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي انضمت إليها ليبيا في ١٦/٥/١٩٨٩ والمنشورة في الجريدة الرسمية في عدد خاص في سنة ٢٠٠٩ في نص المادة التاسعة في الفقرة الثانية منها، على التزام الدولة بمنح المرأة حقًا مساويًا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما وهي مادة غير متحفظ عليها من قبل ليبيا، ومن المعلوم بداهة أن من آثار الانضمام للاتفاقيات الدولية أن على الدولة أن تعدل قوانينها بما يتوافق مع التزاماتها الدولية، وأن تعترف بالحقوق الواردة في تلك الاتفاقيات في قوانينها الوطنية، وأن توفر الحماية للأفراد لتمتع بتلك الحقوق وأن تجرم انتهاك تلك الحقوق أو الانتقاص منها، إلا أن ليبيا على الرغم من انضمامها إلى الاتفاقية منذ ١٩٨٩ لم تعدل قوانينها خاصة ما يتعلق بموضوع هذا المقال، وأن تلغي التمييز ضد المرأة الليبية في حقها في أن تنقل جنسيتها لأبنائها وبناتها.
وبالعودة للمسألة الجوهرية محل الدراسة في هذا المقال، وهي المركز القانوني لأبناء وبنات المواطنات الليبيات المتزوجات بأجانب، فإنه وفقًا لكل ما سبق، فإنهم ما لم يتحصلوا على موافقة بمنح الجنسية لهم، فإنهم يعدون أجانب في ليبيا بغض النظر عن كون والدتهم مواطنة ليبية – والسياق لا يكفي في هذا المقال للحديث عن الانتقاص من الحق في المواطنة الكاملة للنساء الليبيات فقط لزواجهن بأجانب، ولربما سأتناول هذا الأمر في مقال لاحق- والأثر القانوني المترتب على كونهم أجانب، فإنهم وإن كان لهم الحق في التمتع بحقوق الإنسان الأساسية والاستفادة من المرافق العامة للدولة إلا أنهم لا يتمتعون بحقوق المواطنة كالحقوق السياسية بشكل عام والحق في تولي الوظائف العامة والحق في تملك العقارات في ليبيا وغيرها من حقوق المواطنة، بل إن دخولهم إلى ليبيا وإقامتهم فيها تخضع لإجراءات دخولوإقامة الأجانب التي من ضمنها اشتراط تأشيرة الدخول والإقامة في ليبيا وفقًا للمتطلبات القانونية .
وهذا ما تبناه المشرع الليبي في العديد من القوانين ذات الصلة التي حصر فيها تمتع الفرد بالحقوق استنادا لكونه مواطنا أو مواطنة ليبية، فالجنسية هي مناط التمتع بحقوق المواطنة، فمثلا وفقًا لقانون رقم ١٧ لسنة ١٩٦٢ بشأن دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها، فإن المادة الأولى منه نصّت على أنه يعتبر أجنبيا في تطبيق أحكام هذا القانون كل من لا يتمتع بالجنسية الليبية – من ضمنهم أبناء الليبيات المتزوجات بأجانب- بالإضافة إلى أن نص المادة الثانية أشار صراحة إلى أن دخول ليبيا أو البقاء فيها أو الخروج منها بالنسبة إلى الأجانب لا يجوز إلا إذا كانوا متحصلين حاصلا على تأشيرة صحيحة، و بناء على ذلك، فإن دخول وإقامة أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب يخضعون فيه لذات الإجراءات؛ حيث إن القانون لم ينص على استثناء أبناء وبنات الليبيات المتزوجات من أجانب من هذه الشروط، بل إنهم أيضا سيكونون مهددين بالترحيل وبإلغاء الإقامة وبالاتهام بالوجود غير القانوني في ليبيا في حال الدخول بدون تأشيرة أو عدم تجديد الإقامة، خاصة إن كانوا أبناء وبنات من زوج أجنبي ليس من رعايا أحد الدول العربية.
كذلك اشترط قانون العمل الليبي من ضمن شروط الترشح لشغل إحدى وظائف ملاكات الوحدات الإدارية أن يكون متمتعا بالجنسية الليبية، كما أن قانون نظام القضاء رقم 6 لسنة 2006 اشترط في المادة 43 في من يُعيَّن في إحدى الهيئات القضائية أن يكون متمتعا بالجنسية الليبية، بالإضافة إلى قانون المحاماة رقم 3 لسنة 2014 في المادة 4 فقد اشترط في طالب القيد للاشتغال في المحاماة أن يكون ليبيّ الجنسية، وأيضا القوانين المنظمة للانتخابات المختلفة سواء على المستوى الوطني أو المحلي اشترطت في المرشح والناخب أن يكون ليبيّ الجنسية، كل ما ذُكر أعلاه هو على سبيل المثال لا الحصر على قوانين ليبية اشترطت الجنسية للتمتع بالحقوق.
والتساؤل الذي يُطرح هنا هل القرار الصادر مؤخرًا من رئيس حكومة الوحدة الوطنية يمثل تعديلا في القوانين فيما يتعلق بحقوق المواطنة ومن ثم يمتد أثر التمتع بهذه الحقوق لأبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب أم أن أثره يقتصر على الحقوق الواردة فيه على سبيل المثال فيما يتعلق بمجانية التعليم والعلاج؟
من خلال قراءة متأنية ناقدة لنصوص القرار، فإنه وإن نصّت المادة الأولى منه على تمتع أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب بكافة الحقوق التي يتمتع بها المواطن الليبي، إلا أنها في الواقع ليست كذلك؛ فالحقوق المنصوص على أن المتمتع بها يشترط فيه أن يكون مواطنًا في قوانين صادرة عن السلطة التشريعية كالحق في المشاركة السياسية والحق في تولي الوظائف العامة وتمثيل الدولة الليبية -تبقى على حالها دون أي تعديل فلا يمكن أن يحتج بالقرار لتعديل قانون وفقًا للهرم التشريعي الذي يفترض باللائحة أن تكون متوافقة مع القوانين لا العكس، وما دام أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب ما زالوا في نظر القانون الليبي أجانب، فلا يتمتعون بحقوق المواطنة.
ومع هذا، بقية نص المادة الأولى من القرار والمتعلقة بتمتعهم بمجانية العلاج والتعليم والقبول في المدارس الليبية في الخارج هي حقوق قد يمكن الاستفادة بها استنادًا لهذا القرار، وهي خطوة صغيرة في طريق طويل للاعتراف بالمواطنة الكاملة للمرأة الليبية وبحقها في نقل جنسيتها لأبنائها وبناتها.
لقد كان سقف المتوقع من حكومة الوحدة الوطنية لمطالبات المواطنات الليبيات المتزوجات من أجانب عاليا، خاصة أن تمثيل المرأة في الحكومة تجاوز سابقاتها، فلقد كان المتوقع أن يتم تعديل اللائحة التنفيذية لقانون الجنسية وأن يُزال عبء شروط تقييد نقل جنسية المواطنات الليبيات لأبنائهن وبناتهن من اللائحة؛ إقرارًا بحق المساواة في القانون ما بين المواطنين والمواطنات، وأن يكون هذا التعديل خطوة في طريق توصِّل لتعديل قانون الجنسية من قبل السلطة التشريعية بما يتوافق مع الإعلان الدستوري الذي نصّ على الحق في المساواة في القانون دون تمييز، وتنفيذًا لالتزامات الدولة الليبية التي تعهدت بها منذ ١٩٨٩.
قد يعد صدور القرار في حد ذاته مكتسبا من ناحية أنه أعاد القضية إلى الواجهة، وسلّط الضوء على مشكلة حقوقية تواجه العديد من المواطنات الليبيات وأبنائهن وبناتهن، وإثارة الجدل أحيانا تمهد الطريق لتوعية بالمطالبات الحقوقية، وتفسح الطريق أمام إحداث فرق إيجابي في حياة الضحايا، إلا أن المعالجة التي قدمها هذا القرار للإشكالية معالجة يحسبها العطشان ماءًا حتى إذا طالب بتنفيذها اكتشف أنها سراب لا يروي ظمأ ولا يشبع جوعا.
معالجة إشكالية حقوق أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب تحتاج إلى جدية وإرادة سياسية تقر بمواطنة كاملة للمرأة الليبية كشريكة وطن لا وصاية عليها ولا انتقاص من حقوقها ولا تمييز ضدها. وهذا يتطلب تعديلًا تشريعيًّا لقانون الجنسية الليبي بحيث يكون ليبيًّا كل من ولد لأب أو أم ليبية، وفي حال صعوبة إقرار تعديل تشريعي ما زال أمام الحكومة إمكانية تعديل اللائحة التنفيذية لقانون الجنسية التي نصت على شروط تمييزية مجحفة تحول دون حصول أبناء وبنات الليبيات المتزوجات بأجانب على الجنسية الليبية، كما أنه بالإضافة إلى التعديل في القوانين والسياسات، فإن التوعية بالتحديات التي تواجهها النساء الليبيات المتزوجات بأجانب والتي من ضمنها عدم قدرتهن على نقل جنسيتهن لأبنائهن وبناتهن يبقى مسؤولية منظمات المجتمع المدني والمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان، وأيضا على مختلف وسائل الإعلام لخلق رأي وعي بهذه القضايا وأثرها في المجتمع كله، وفي النساء الليبيات تحديدا؛ لأن هذا الوعي بدوره سيخلق رأيًا عامًّا داعمًا وضاغطًا على صناع القرار لأحداث التغييرات التشريعية لصالح المرأة الليبية وحقوقها.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!