ليبيا : تردي الوضع الإنساني، شلل مؤسسات الدولة وإنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان

تقرير مركز القاهرة : حالة حقوق الإنسان في العالم العربي والمغاربي 2017/2018 لقراءة التقرير كاملا

شهدت ليبيا خلال عام 2017 عدة محاولات لإنهاء فتراتها الانتقالية التي امتدت إلى ما يقرب من سبع سنوات منذ فبراير 2011. وبذل مبعوثان متعاقبان من الأمم المتحدة إلى ليبيا، مارتن كوبلر وغسان سلامة، جهديهما خلال هذا العام لكسر الجمود السياسي الذي يواجه تنفيذ اتفاق السلام الذي وقعته الأحزاب الليبية المتصارعة في ديسمبر 2015، لكن انتهى عام 2017 دون اتخاذ أي خطوات حقيقية أو ملموسة للتغلب على امتناع الأطراف الليبية عن إنهاء النزاع المسلح بين شرق وغرب ليبيا. وعلى الرغم من تصويت 43 عضواً في جمعية صياغة الدستور في يوليه لصالح طرح المسودة الأخيرة للاستفتاء، فإن بعض أعضاء هيئة كتابة الدستور طعنوا أمام محكمة الدرجة الأولى في البيضاء في الشق العاجل ضد صلاحية التصويت. وتعطل الاستفتاء بعدحكم المحكمة بإيقاف قرار التصويت، وإحالة مسودة الدستور للبرلمان. وينتظر الليبيون حكم الدائرة الإدارية بالمحكمة العليا بشأن الاستئناف علي حكم أول درجة. كما يواجه مشروع الدستور العديد من الانتقادات لغياب التوافق في الآراء حول صياغته، وتهميش الأقليات، وفشل المواد المقترحة في الامتثال للمعايير الدولية المتعلقة بحماية حقوق اﻹنسان. وليست الإجراءات القضائية فقط التي تعرقل تبني دستوراً جديداً وإنهاء المرحلة الانتقالية، فعدم قدرة مجلس النواب عقد جلسات تتمتع بالنصاب القانوني لتبني قانون الاستفتاء والانتخابات، وتضمين الاتفاق السياسي داخل الإعلان الدستوري 2011، تعتبران من أكبر العوائق أمام عملية بناء السلام والتحول الديمقراطي.

وبشكل عام لا تزال مؤسسات الدولة الليبية مختلة وغير قادرة على ممارسة اختصاصاتها، فضلاً عن نقص وتدهور الخدمات الأساسية المقدمة للمواطنين. وفاقمت بلدان أخرى في المنطقة وخارجها، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة وتركيا، من حالة عدم الاستقرار والنزاع المسلح في ليبيا، من خلال دعم الجماعات المسلحة في الغرب والشرق، بما في ذلك الجماعات المتطرفة المسلحة. ويشكل هذا الدعم انتهاكاً خطيراً لحظر الأسلحة.

وتسبب استمرار شلل وانقسام مؤسسات الدولة وعدم وجود جهود منسقة لمكافحة الإرهاب في تدهور الحالة الإنسانية، مع تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع المسلح. وواصلت مختلف الجماعات المسلحة مهاجمة وتهديد منظمات المجتمع المدني المحلية والمدافعين عن حقوق الإنسان وأعضاء السلطة القضائية والعاملين في وسائل الإعلام وطالبي اللجوء والمهاجرين. كما انتشر في المنافذ الإعلامية خطابات الكراهية والتحريض على العنف. ويستمر استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية بشكل منتظم من خلال العديد من الهجمات العشوائية، والتي غالبا ما تنفذها المليشيات والجماعات شبه العسكرية الخاضعة لسيطرة أعضاء المجلس الرئاسي والجيش الوطني الليبي. وتواصل هذه الجماعات المسلحة ارتكاب أعمال التعذيب والاحتجاز التعسفي والقتل خارج نطاق القانون في ظل إفلات تام من العقاب. ويحتفظ داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) بالقدرة على تنفيذ هجمات مسلحة في الهلال النفطي، المنطقة الوسطى حول جفرة، وكذلك في جنوب ليبيا، وبشكل أقل في المنطقة الغربية. ووفرت المعارك الداخلية بين القوات التابعة لمجلس الرئاسة والقوات الليبية التابعة للجنرال حفتر مناخاً مناسباً لاستمرار وجود تنظيم الدولة اﻹسلامية في ليبيا.

صعوبات أمام عملية صياغة الدستور والاستفتاء عليه

تنص المادة 30 من الإعلان الدستوري الصادر في أغسطس 2011 على صياغة واعتماد دستور جديد للبلاد، بالإضافة إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة تختتم بها المرحلة الانتقالية. وسمح تصويت جمعية صياغة الدستور، والذي عُقد في فبراير 2014، بانتخاب 60 عضواً وعليه عُقد الاجتماع الأول للجمعية في 21 أبريل 2014. وبعد ثلاث سنوات، وفي 29 يوليه 2017، صوتت جمعية صياغة الدستور – بتأييد 43 عضوا – على مشروع آخر يطرح في استفتاء وطني. وصوت أعضاء الجمعية تحت ضغط وخلافات بينهم وانتقادات لعدم وجود إجماع على عملية الصياغة، فضلاً عن تهميش الأقليات، مثل تيبو والأمازيغ، وفشل مشاريع المواد في الامتثال للمعايير الدولية المتعلقة بالحقوق الأساسية.[38]

ورحب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، بالموافقة على مسودة الدستور، ودعا الأطراف المعنية لتهيئة الظروف لإجراء استفتاء حر وشعبي. وعقد مجلس النواب دورته العادية في 14 أغسطس، وكان على جدول أعماله بحث الإطار القانوني للاستفتاء، ولكن علّق مجلس النواب اجتماعه في اليوم التالي، بعد أن كلف اللجنة التشريعية بإعداد قانون الاستفتاء حول مسودة الدستور وتقديمه للمجلس في الأسبوع التالي لاعتماده، وحتى نهاية ديسمبر، لم يكن قانون الاستفتاء جاهزاً، ولم يعقد مجلس النواب جلسات لها نصاب قانوني.

وفي 17 أغسطس، صرحت محكمة العدل الإدارية في محكمة الاستئناف في البيضا، في قرار عاجل، بأن جزءاً من قرارها يمنع تصويت جمعية صياغة الدستور على المسودة. وبررت المحكمة قرارها بعرقلة التصويت بإن تصويت الجمعية كان في يوم سبت، وهو عطلة أسبوعية، وليس ضمن أيام العمل المقررة للدولة ومؤسساتها. ولا يزال القسم الإداري للمحكمة العليا في طرابلس بصدد إصدار بيان بشأن الاستئناف ضد قرار المحكمة. وفي مرحلة ما في المستقبل، يجب على المحكمة العليا في طرابلس إصدار حكم يوضح محتوى مسودة دستور يوليه 2017. وليست هذه هي المرة الأولى التي يدعو الليبيون فيها المحاكم الليبية إلى النظر في العمل الخاص بلجنة صياغة الدستور، ففي عام 2016، أصدرت محكمة العدل الإدارية عدة أحكام تبطل قرارات للجمعية التأسيسية.[39]

واحدة من نقاط الخلاف حول مسودة دستور يوليه 2017، تتعلق بتأييده الأحكام الإسلامية كمصدر للتشريع، وحذفه التعريف السابق لأحكام الشريعة والذي اعتبره القانون مشروعا إذا لم يتطلب ”رأيا فقهياً محدداً في مسائل الفقه”. ويسمح النص الدستوري بشكله الحالي الغامض، أن تتبع الدولة عقيدة أو تفسيراً معيناً للشريعة الإسلامية عند صياغة القوانين، وفتح المجال لاحتكار التفسيرات المتطرفة للدين وتحولها أن لمصدر للتشريع في ليبيا. علاوة على ذلك، فإن المسودة تكرر الإشارة إلى الشريعة الإسلامية في المواد 6 و153 و161 دون الإشارة إلى الآليات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.

كما يعتبر مشروع الدستور الفعلي اللغة العربية فقط اللغة الرسمية لليبيا، ما يهمش المجتمعات غير العربية مثل مجتمعات تيبو والأمازيغ. وعلاوة على ذلك، فإن الصياغة الغامضة للمادة 65 مقيدة للحقوق والحريات، لأنها تمنح سلطات تقديرية للدولة ككل لأغراض حماية وتعزيز الثقافات الوطنية والمحلية. ولا تضمن المواد 37 و38 و163 الحماية الكافية لاستقلال وسائل الإعلام وحرية التعبير[40]

عرقلة تنفيذ الإتفاق الليبي من قبل الأطراف الليبية والدولية

بعد عامين من مفاوضات السلام التي دعمتها الأمم المتحدة، وقعت الأحزاب الممثلة في مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام في 17 ديسمبر 2015 على الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات بالمغرب. وبحلول ديسمبر 2017، سعت اتفاقية السلام، التي ترعاها الأمم المتحدة والعديد من الترتيبات السياسية الموازية الأخرى، إلى إحياء الاتفاق السياسي الليبي، بما في ذلك الخطة الأفريقية والخطة الثلاثية المصرية التونسية الجزائرية. وتلت هذه الجهود، اجتماعات أخرى بين رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج وقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر في أبو ظبي ثم في باريس، لكن كل هذه الجهود لم تؤت ثمارها، ولم يتحسن الوضع، في ظل استمرار ثلاث سلطات متصارعة في التنافس على الشرعية، هي: مجلس النواب في الشرق، وحكومة الوفاق الوطني ومجلسها الرئاسي في طرابلس، والحكومة الوطنية للإنقاذ في إطار المؤتمر الوطني العام السابق، وكذلك الجماعات المسلحة المتحالفة معها. وأعاق هؤلاء المطالبون بالشرعية والمتنازعون عليها تنفيذ اتفاق السلام ومبادرات المصالحة المحلية. وعلى الرغم من الزخم والدعم الدولي الكبير الذي تمتع به الاتفاق السياسي الليبي، إلا أنه لم يسفر عن تقدم في المشهد السياسي بعد عامين من توقيعه. ولم يتمكن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني من توسيع نفوذه على ليبيا بأكملها، بل لم ينجح في مهمته الأساسية المتمثلة في إنهاء الانقسام الذي تعاني منه جميع المؤسسات تقريباً.

توازن القوى العسكرية على الأرض بين اﻷطراف المتحاربة، وفقدان الثقة بين القوى السياسية والمجتمعية الليبية، صَعب من عمل أطراف النزاع ككيان واحد، لدفع تنفيذ الاتفاقية إلى الأمام. وكان لدور الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية تأثيراً سلبياً. وأدى استمرار دعم القوات الخارجية للأطراف المعارضة إلى زيادة حجم وقدرات بعض هذه المعسكرات إلى درجة تعوق أي توافق في الآراء. وبينما كان فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي، يحظى بدعم المجتمع الدولي، كان هناك تعزيز واضح للدور السياسي للجيش بقيادة قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر. وتعزز دور الجيش إلى الحد الذي تمكن فيه حفتر من التصريح بإعطاء السياسيين مهلة ستة أشهر للتوصل إلى حل سياسي.

وكان تعيين غسان سلامة كبديل لمارتن كوبلر في 22 يونيه علامة فارقة في العملية السياسية. فهو نجح في استعادة زخم مؤقت للاتفاق السياسي الليبي بعد أن تلقت خطته ذات المراحل الثلاث، دعماً غير مسبوق من الجمعية العامة للأمم المتحدة. واقترح سلامة في 20 سبتمبر خطة عمل لمراجعة اتفاق السلام الليبي، والتي اقترحت العمل مع مجلس النواب ومجلس الدولة من خلال لجنة صياغة تتألف من الجمعيتين لإجراء تغيير على تكوين السلطة التنفيذية، كمرحلة أولي. بينما يأتي المؤتمر الوطني العام في المرحلة الثانية، 2018 بهدف منح الليبيين، من جميع أنحاء البلاد، فرصة الاجتماع في مكان واحد وتجديد روايتهم الوطنية الجماعية والاتفاق على الخطوات الملموسة المطلوبة لإنهاء المرحلة الانتقالية، ومن ثم السماح باعتماد ميثاق وطني، وتقديم إرشادات للتشريعات اللازمة لإنهاء المرحلة الانتقالية. أما المرحلة الثالثة فكان يفترض أن تتضمن اعتماد مجلس النواب للتشريع الخاص بإجراء الاستفتاء الدستوري وانتخابات الرئاسة والانتخابات البرلمانية. إلا أنه وبسبب تعنت مجلس النواب ومجلس الدولة وعرقلة المجموعات المسلحة لم تتمكن اللجنة المشتركة حتي نهاية مايو 2018 من اتمام المرحلة الأولي من هذه الخطة، مازال مجلس النواب يعرقل ضم هذه الخطة للإعلان الدستوري ويعرقل تبني قانون لتنظيم الإستفتاء علي الدستور الجديد وقانون تنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

وأقرت اللجنة الرباعية المعنية بليبيا، والمؤلفة من الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، خطة عمل الأمم المتحدة في سبتمبر. وحدث تقدم في طريق الاستعداد للانتخابات عام 2018، وأطلق تسجيل الناخبين في 6 ديسمبر، وذلك باستخدام قائمة الناخبين لعام 2014، والتي شملت 1.48 مليون ناخب مسجل. وفي وقت كتابة هذا التقرير، كان هناك أكثر من 600 ألف مسجل جديد بعد بدء العملية، وبحلول نهاية عام 2017، وصل عدد الناخبين المسجلين إلى أكثر من 2 مليون ناخب. وزاد حفتر من تعقيد المرحلة الانتقالية بإعلانه، في 17 ديسمبر، أنه يعتبر الاتفاق السياسي الليبي باطلاً والمجلس الرئاسي غير شرعي.[41] كما أعلن حفتر عدم اعترافه بانتخابات تجرى في طرابس، حيث يعتبرها مدينة مختطفة من قبل المليشيات المسلحة والإرهابيين، مما يعَقد كيفية إجراء الانتخابات في الشرق والغرب والاعتراف بنتائجها من قبل الأطراف الليبية المتحاربة.

ويعد تعسر العملية السياسية وموجة العنف المتصاعدة في ليبيا، نتيجتان متوقعتان للإفلات المستمر من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولعدم العمل الجاد لإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية في البلاد. فأمراء الحرب في الشرق والغرب يمنعون، على المستويين الوطني والمحلي، أي تنفيذ لاتفاقات المصالحة المتعددة، بينما لا يمكن الحديث عن مكافحة الإرهاب والتعايش السلمي وحكم القانون دون التطرق أولاً إلى هذين العاملين.

عجز مؤسسات الدولة وتفشي المجموعات الرديكالية المسلحة

لاتزال الدولة الليبية ومؤسساتها التنفيذية، وبالأخص المؤسسات الأمنية، رهينة للمليشيات التي لا تخضع لمجلس الرئاسة وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً. وشهد عام 2017 تمرداً وعدة هجمات من قبل المجموعات العسكرية وشبه العسكرية ضد مؤسسات الدولة الوليدة، وضد مبادرات المصالحة المحلية والوطنية. وانتشرت الجماعات المسلحة المتطرفة في غرب وشرق ليبيا، بما في ذلك الجماعات التي لها علاقات وثيقة مع تنظيم القاعدة والاتجاه السلفي المدخلي.

ويواصل المجلس الرئاسي والجيش الوطني الليبي العمل من خلال الجماعات المسلحة وشبه العسكرية في غياب أي آلية للتكامل الحقيقي أو أي أداة لتحديد التسلسل القيادي. وعزز التعامل مع مؤسسات أمنية غير منظمة مناخا لا مركزيا تسيطر عليه الجماعات المسلحة التي أدت إلى شل مؤسسات الدولة. ومع غياب تام للمساءلة، ترتكب هذه الجماعات انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. كما تستفيد من مبالغ طائلة من خزانة الدولة، لأنها تستمر في العمل بالاسم فقط في مؤسسات الدولة الأمنية.

فشل مجلس النواب في عقد جلسات بالنصاب القانوني المطلوب، كما امتنع عن تأييد اتفاق السلام في الإعلان الدستوري. ولم يجتمع مجلس النواب إلا مرات قليلة طوال العام كله، كما أوقف عملية السلام دون أي إنجازات فيما يتعلق بولايته التشريعية. وأصبح مجلس النواب عقبة حقيقية، بعد أن انقضت مدته وفقا لسند إنشائه منذ أكتوبر 2015. وتصدر مجلس النواب للتعديل التشريعي التاسع والذي خالف فيه سند إنشائه (مقترح فبراير) بالتمديد لنفسه، بالمخالفة لمبدأ سامٍ ألا وهو مبدأ التداول السلمي للسلطة الوارد في الإعلان الدستوري، واستمراريته دون سند دستوري. وعلى الرغم من التمديد لنفسه بشكل غير قانوني، ظل خلال 2017 مشلول تماما وغير قادر على الاجتماع ولا عقد جلساته وفقا للنصاب المطلوب.

ويقتصر عمل السلطة القضائية على القضايا المدنية والإدارية. ولكن ظل القضاء عاجزا تماما للقيام بدوره الدستوري ومسؤوليته بمحاسبة الأفراد الضالعين بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي، ومنها محاكمة المدينيين أمام محاكم عسكرية في الشرق. ولا تجد النيابة العامة وسائل لضبط وإحضار المتهمين ولا توفر أي ضمانات للضحية، مما أدي لعدم وصول أي قضايا متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان إلى المحاكم. ويظل الطريق مسدوداً تماماً أمام الضحايا الليبيين في الوصول للعدالة. وتقع أيضا السلطة القضائية رهينة مجموعات مسلحة وشبه عسكرية تضم فيها مجموعات متطرفة مسلحة، فضلا عن تواطؤ بعض الفاعلين الدوليين مع هذا الوضع، وهو السبب الرئيسي في تمدد الإفلات من العقاب والممارسات الإجرامية المنتشرة في ليبيا منذ أعوام.

تعمل الجهات الفاعلة الخارجية، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة وتركيا، على تغذية دورة العنف والإسهام في عدم استقرار ليبيا من خلال دعم الجماعات المسلحة في غرب وشرق ليبيا، بما في ذلك الجماعات المسلحة المتطرفة. ويشكل هذا الدعم انتهاكاً خطيراً لحظر الأسلحة، وهي جريمة تستمر لجنة خبراء مجلس الأمن في توثيقها،[42] بموجب القرار 1970/2011، وفقًا للتقارير التي تغطي الأعوام 2015 و2016 و2017. وتدعم هذه الدول الجماعات المسلحة، بما في ذلك الجماعات المسلحة المتطرفة ذات العلاقات الوثيقة مع تنظيم القاعدة والاتجاه السلفي المدخلي. كما يدعي الأفراد المنتمون إلى هذه الجماعات أنهم يحاربون الإرهاب، بينما يرتكبون نفس الانتهاكات التي يرتكبها الإرهابيون، دون احترام لاتفاقيات جنيف الأربع بشأن المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي المتعلقة بالنزاع المسلح، سواء الداخلية منها أو الدولية.

اثر الاشتباكات المسلحة علي تنامي انتهاكات حقوق الإنسان وتردي الوضع الإنساني

أسفر استمرار العنف عن مقتل العشرات من المدنيين في النزاع المسلح في ليبيا. ففي 18 مايو، أُعدم ما لا يقل عن 30 سجيناً من اللواء الثاني عشر من القيادة العامة للجيش الليبي في قاعدة براك الشاطي الجوية في جنوب ليبيا. ونفذ الإعدام الميليشيات التابعة للمجلس الرئاسي في جنوب ليبيا. وأُغلق مطار معتيقة[43] في 5 يوليه في أعقاب المصادمات التي استهدفت المناطق المحيطة، مما أدى إلى وفاة عائلة كانت على الشاطئ المقابل للمطار. وقُتل ما لا يقل عن سبعة مدنيين في منتجع يقع على الجانب الآخر من المطار، بينهم رضيع يبلغ من العمر ثلاثة أشهر وطفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات، فضلاً عن أمهم وأخواتهم، وكانت الأم من عائلة الشايبي، ومتزوجة من عائلة مدني.

كما توجد مزاعم عن أعمال قتل خارج نطاق القانون ارتكبها النقيب محمود ورفلي أثناء عمليات أدت إلى إعدام 33 شخصًا في الفترة بين 3 يونيه 2016 و17 يوليه 2017. وعلى الرغم من أن القيادة العامة للجيش الليبي في الشرق أعلنت أنها بدأت التحقيق مع ”ورفرلي“ في 2 أغسطس،[44] استطاع الأخير إصدار مرسوم تنظيمي رسمي في 14 أغسطس[45] بصفته قائد بكتيبة الصاعقة، مما يؤكد عدم جدية هذه التحقيقات، وعجز السلطات في شرق ليبيا أو عدم رغبتها في القبض على ”ورفلي“ وغيره من المسئولين عن عمليات القتل خارج إطار القانون وجرائم التعذيب، وتقديمهم للمحاكمة، على نحو يعزز ظاهرة الإفلات من العقاب ويؤكد القناعة الكاملة بعجز القضاء ومنظومة العدالة عن محاكمة المتورطين في جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان شرقًا وغربًا.

وقُتل 36 شخصًا خارج نطاق القانون في أبيار في 27 أكتوبر، كما عثر على جثث الثلاثة الذين قتلهم مجلس مجاهدي درنة أمام مستشفى الحريش في درنة. وتعرض عمدة مصراتة، محمد الشتيوي إلى الاختطاف في 17 ديسمبر بالقرب من مطار مصراتة من قبل مسلحين مجهولين. ولاحقا، عُثر على جثته وبها عدة جروح ناجمة عن طلقات نارية وضربة في الرأس أمام مستشفى محلي.

راح ضحية النزاع في ليبيا خلال عام 2017 في مختلف المدن الليبية ما لا يقل عن 337 ضحية مدنية، كنتيجة مباشرة للعمليات العسكرية في مناطق مختلفة، بما فيها 160 حالة وفاة وما لا يقل عن 177 حالة إصابة، من بينها نساء وأطفال. وهذا الحصر يقتصر على الضحايا المدنيين الذين قُتلوا أو أصيبوا أثناء الأعمال العدائية، ولم يكونوا مشاركين بشكل مباشر في القتال. ولا تشمل هذه الأرقام الضحايا الذين ماتوا أو جرحوا كنتيجة غير مباشرة للقتال.

كما لا تعكس هذه الأرقام معاناة المدنيين من تداعيات الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الصراع. وتشمل هذه التداعيات نقصاً حاداً في السيولة في البنوك وانخفاض سعر صرف الدينار الليبي، بالإضافة إلى انخفاض مستوى الخدمات الأساسية. ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، يحتاج أكثر من 550 ألف طفل ليبي إلى مساعدات خلال 2017 بسبب عدم الاستقرار السياسي، واستمرار الصراع، والتباطؤ الاقتصادي. وقدرت وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة في نهاية 2017 ارتفاع عدد النازحين إلى 256,615 والعائدين إلى 227,866 والمهاجرين إلى 351,382 في ليبيا.

وفقا لتقرير الأمين العام لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الصادر في فبراير 2018، اعتُقلت النساء خلال عام 2017 تعسفًا، غالبا بسبب الانتماء العائلي أو بسبب ”جرائم أخلاقية“ مثل الانخراط في علاقات جنسية خارج الزواج، كما احتُجزت النساء في مرافق دون حراس من الإناث، مما عرَّضهن لخطر الاعتداء الجنسي. وذكرت نساء أنهن تعرضن للتجريد من ملابسهن، والتفتيش بواسطة/ أو أمام حراس ذكور. وتعرضت النساء والفتيات المهاجرات للاغتصاب والبغاء القسري وغيرهما من أشكال العنف الجنسي، على أيدي مسئولي الدولة وأفراد الجماعات المسلحة والمهربين. وأقرت بعض الناشطات تعرضهن لتحرش واستجواب عند السفر للخارج دون ”ولي أمر.“[46]

واستمرت الهجمات على البنية التحتية للنظام القضائي في ليبيا، بما فيها الهجمات على القضاة والمدعين العامين والمحامين، وكذلك على المحاكم. وكان آخرها على مجمع المحاكم في مصراتة في 4 أكتوبر2017، والتي أدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 35 آخرين. وأقر تنظيم الدولة الإسلامية بمسئوليته عنها.

وتعاني ليبيا من اندلاع العنف بشكل منتظم، مثلما تعاني من موجات الهجرة المنتظمة. ويمر مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء عبر أراضيها في طريقهم إلى أوروبا. ويواجه الكثير منهم اعتداءات صارخة، منها الضرب والاعتداء الجنسي والعمل الجبري والابتزاز.[47] وفي الوقت نفسه، يوجد الآلاف من المحتجزين رهن الاعتقال التعسفي طويل المدى في السجون في جميع أنحاء البلاد. ويتعرض المعتقلون، بمن فيهم الأطفال دون سن 18 عاماً، للتعذيب المنهجي وغيره من ضروب سوء المعاملة، فضلاً عن سوء ظروف الاحتجاز. كما يفتقرون إلى الحقوق الأساسية، ولا يستطيعون الوصول إلى أي شكل من أشكال الإجراءات القانونية الأساسية. ولا تزال الميليشيات والعصابات الإجرامية تختطف وتخفي مئات الأفراد، بمن فيهم الصحفيون والسياسيون والناشطون، لأسباب سياسية ومالية. ولا يزال 40 ألف نازح قسري من مجتمع تاورغاء يعيشون في ظروف غير إنسانية، ويمنعون من العودة إلى ديارهم من قبل الميليشيات المسلحة في مصراتة.

المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان بين التقييد والتنكيل

تمتد تداعيات النزاع المسلح في ليبيا إلى عمل المدافعين عن حقوق الإنسان وجماعات المجتمع المدني. وتوجد العديد من البلاغات عن تعرض العشرات منهم للابتزاز، أو التهديد بالقتل، أو الاحتجاز التعسفي، أو التعذيب، أو الاعتقال أو الاختفاء القسري. كما تعرض الصحفيون والعاملون في وسائل الإعلام لانتهاكات متكررة. وفي 15 يناير2018، اعتقلت قوات الجيش الوطني الليبي المصور وائم بن زابيا واحتجزته لأسابيع بسبب مبادرته لتغطية حصار درنة. وفي 5 فبراير2018، اختطفت جماعة مسلحة في طرابلس عيل شامل الإعلامي في محطة التلفزيون الوطنية، وأفرجت عنه بعد أن أجبرت عائلته على دفع فدية.[48] ووثق المركز الليبي لحرية الصحافة 1,070 واقعة حض على الكراهية، خلال شهري فبراير ومارس، في وسائل الإعلام المختلفة المتحالفة مع مختلف الأطراف المتصارعة.[49]

وفي نهاية العام، قدمت اللجنة الليبية للمجتمع المدني إلى مجلس النواب مشروع قانون يقيد بشدة حرية تكوين الجمعيات وتسجيل المنظمات خاصة الدولية منها، ما يحد من الوصول إلى التمويل، ويمنح السلطة التنفيذية القدرة على تعليق وحل الجمعيات وتجميد الحسابات دون أحكام قضائية. ولم يوضع إطار قانوني لمنظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية حتى الآن، باستثناء المرسومين 1-2 الصادرين عن لجنة منظمات المجتمع المدني في عام 2016 واللذان يقيدان بشدة تكوين وعمل الجمعيات، ويسمحان للسلطة التنفيذية، ممثلة في وزارة الشؤون الخارجية ولجنة منظمات المجتمع المدني، بالتدخل في التصريح بأعمال الجمعيات ومشاريعها.

وتواجه منظمات المجتمع المدني بشكل خاص، والتي تعمل على حماية وتعزيز حقوق الإنسان، تدخلًا إداريًا متعسفا، ودون إشراف قضائي، بالإضافة إلى الهجمات القاسية التي تشنها الجماعات المسلحة التي تعمل كوسيط فعلي على الأرض. مما ساهم في إغلاق المجال العام أمام الأصوات المعتدلة، واضطرار منظمات المجتمع المدني والناشطين والعاملين في وسائل الإعلام إلى الاختيار بين الموت أو النفي، في حين علق آخرون عملهم خوفاً من الانتقام. ومع إخراس الأصوات المعتدلة، احتكر المتطرفون الفضاء العام المحلي لأنهم الوحيدون القادرون على العمل في أمان، نظراً للأمن والدعم المالي الذي يتلقونه من مختلف الفصائل السياسية والجماعات المسلحة المتنافسة.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *