في الحاجة لإجراءات عاجلة لمواجهة الانتهاكات الجسيمة في ليبيا
يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن قلقه البالغ إزاء تصاعد أعمال العنف في ليبيا واستمرار الانتهاكات الممنهجة والجسيمة لحقوق الإنسان منذ بدء الصراع في 2011. ويؤكد المركز على أن طبيعة أعمال العنف والجرائم المرتكبة في ليبيا ترتقي إلى حد ارتكاب جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية في ظل فشل واضح للسلطات الليبية المتعددة و المجتمع الدولي
–حتى الآن في حماية المدنيين من الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها مختلف الجماعات المسلحة المتواجدة ميدانيًا في الأراضي الليبية. على أطراف المجتمع الدولي ذات الصلة، بما في ذلك مجلس الأمن ووسيط الأمم المتحدة بين الأطراف الليبية المتصارعة ومجلس حقوق الإنسان والنائب العام للمحكمة الجنائية الدولية، اتخاذ الإجراءات المناسبة للحيلولة من تدهور الأمر.
في الثلاثاء 24 فبراير، عُثّر في طرابلس على جثة الناشطة الليبية الحقوقية والمدونة المشهورة انتصار الحصائري، وكذا جثة إحدى قريباتها، بعد قتلهما، في سيارة يقال أنها كانت في المكان نفسه لمدة يومين. كانت الحصائري عضوًا بارزًا في منظمة “التنوير” والمتخصصة في التعليم، والموسيقى، والفنون. تأتي تلك الجريمة في وقت تستمر فيه عملية استهداف واغتيال العشرات من النشطاء وأعضاء منظمات المجتمع المدني في ليبيا خلال الأشهر الأخيرة، الأمر الذي دفع كثير من النشطاء والحقوقيين للفرار من البلاد مع عائلاتهم، ومازال بعضهم يواجه تهديدات من قبل أفراد الميليشيات العسكرية حسب تقارير تلقاها مركز القاهرة.
ومن ثم يشدد مركز القاهرة على ضرورة وقف استهداف منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والإعلاميين وأعضاء السلطة القضائية في ليبيا، والذين مازالوا يواجهون حملات واسعة من الانتقام وأعمال العنف، ويشدد المركز على مسئولية السلطات الليبية عن ضمان إجراء التحقيقات المناسبة والمستقلة –إلى أقصى حد ممكن– في وقائع استهدافهم ومحاسبة جميع الأطراف المسئولة عن تلك الانتهاكات.
في الجمعة 20 فبراير، انفجرت ثلاث عبوات ناسفة في مدينة القبة شرق ليبيا، مما أسفر عن مقتل 42 شخصًا على الأقل، بينهم 5 من العمال المصريين، وأصيب أكثر من 70 شخص، وقد تزامنت تلك التفجيرات مع أخرى مماثلة استهدفت مقرات الشرطة في منطقة القبة، ومنزل متحدث برلمان شرق ليبيا و محطة وقود.
في 16 فبراير، شنت القوات المسلحة المصرية بالتنسيق مع القوات الجوية الليبية ضربات جوية للمجموعات السلامية المسلحة في درنة، شرق ليبيا، على حد وصف السلطات المصرية، إلا أن تقارير حول نتائج القصف زعمت وفاة على الأقل 6 من المدنيين بينهم 3 أطفال، فيما نفت الحكومة المصرية أية اتهامات لها بالتورط في قتل هؤلاء المدنيين.
تأتي هذه الضربات الجوية المشتركة بعد الإعدام الوحشي لـ 21 مسيحي، من بينهم 20 مصريًا، بعدما تم تصويرهم ونشر مقاطع مصورة للحظة إعدامهم من قبل مجموعة مسلحة تدعى انتمائها لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في 15 فبراير. وفي أعقاب ذلك تلقى مركز القاهرة معلومات حول اختفاء 35 آخرين من الأقباط المسيحيين المصريين، أثناء خروجهم من مدينة سرت في 17 فبراير وبعد يوم واحد من الغارات الجوية التي تقودها مصر. جدير بالذكر أن تقارير أخرى تشير إلى وقائع استهداف مصريين –بما في ذلك حوادث الاختطاف– يتم تنفيذها في طرابلس والمدن في المنطقة الغربية بعد الضربات الجوية المصرية، ولكن لم يتمكن مركز القاهرة من تأكيد هوية الخاطفين.
لقد بدأ تصاعد استهداف المصريين المسيحيين على أساس معتقدهم ، في نهاية عام 2013 حيث تم الإبلاغ عن عدة حوادث إعدام خارج نطاق القانون، وعمليات اختطاف، دون اتخاذ أي جهود نحو المساءلة حتى الآن، علمًا بأن طبيعة تلك الحوادث قد تصل إلى حد جرائم الحرب.
لقد أصبح من الواضح انه بعد أربع سنوات من ثورة 17 فبراير 2011، ما زال العمال الليبيين والأجانب يعانون من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان دون اتخاذ أي تدابير لضمان مساءلة المسئولين عن هذه الانتهاكات، إذ فشلت الحكومات المتعاقبة في ليبيا، في حماية الضحايا ومنع وقوع جرائم جديدة.
وفي هذا الإطار يدعو مركز القاهرة جميع أطراف النزاع المسلح المتواجدة ميدانيًا في ليبيا، إلى الامتثال التام لالتزاماتهم بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك مبادئ التناسب والتمييز، والامتناع فورًا عن استهداف السكان المدنيين. كما يدعو مركز القاهرة الجماعات المسلحة الليبية والسلطات الليبية المتعددة إلى ضمان الوقف الفوري للانتهاكات المستمرة، بما في ذلك عمليات الإعدام خارج نطاق القانون.
ويشدد المركز على أن أي قرار طويل الأمد بشان الوضع الحالي في ليبيا، من قبل الجهات الفاعلة الوطنية والإقليمية والدولية لا يمكن أن يتم من دون الآخذ بعين الاعتبار للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وضمان المساءلة عن الانتهاكات السابقة والحالية.
كانت الأمم المتحدة قد عمدت إلى تيسير الحوار السياسي بين أطراف النزاع في ليبيا الشهر الماضي، وفي هذا السياق يحث مركز القاهرة على استمرار إجراء حوار شامل يركز بشكل خاص على عملية المساءلة، كخطوة إيجابية نحو حل سلمي للصراع. كما يدعو مركز القاهرة مجلس الأمن لوضع مواد القرار 2174، الذي اعتمد في عام 2014 حيز التنفيذ، والبدء على نحو فعال في حظر السفر وتجميد الأموال لمرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
إن جهود مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حول الوضع في ليبيا من خلال البند السنوي، والخاص بالمساعدة التقنية لم تعد تعكس بشكل كاف خطورة الوضع الحرج في ليبيا، ومن ثم؛ ولضمان المسائلة، يجدر بالمجلس في جلسته المقررة في مارس المقبل إنشاء آلية دولية للتحقيق والنظر في جميع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي ترتكب في ليبيا؛ بهدف محاسبة جميع الأفراد المسئولين جنائيًا عن هذه الانتهاكات.
كان مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قد أنشأ في 25 فبراير 2011، لجنة تحقيق دولية حول الأوضاع في ليبيا، والتي أصدرت تقريرها في يونيو من العام نفسه مؤكدة أن القوات الموالية للقذافي وكذا القوى الثورية على حد سواء قد ارتكبا جرائم دولية، ولكن لم يتم اتخاذ أية خطوات حقيقية –حتى اليوم– للتصدي لتلك الانتهاكات ومساءلة الجناة. وهذا التخاذل عن المساءلة الوطنية والدولية لم يؤد سوى لتشجيع المزيد من مرتكبي أعمال العنف في ليبيا، وزعزعة استقرار الوضع في البلاد.
إن جهود مجلس حقوق الإنسان بشأن الوضع في ليبيا صارت الآن على نحو أكثر أهمية، لاسيما بعد إجلاء موظفي بعثة الأمم المتحدة الخاصة في ليبيا (UNSMIL) بعد تدهور الوضع الأمني من البلاد.
وفي ضوء الولاية الجارية لمدعي المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت بتاريخ 15 فبراير 2011، وحسب القرار 1970 لمجلس الأمن الدولي، يدعو مركز القاهرة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لفحص جميع الوقائع التي تفيد بوقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في ليبيا مؤخرًا، وذلك بهدف مثول جميع مرتكبيها للعدالة. ويشير مركز القاهرة في هذا الصدد إلى البيان الذي أدلى به المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 25 يوليو 2014 ووعد فيه بـــــ “التحقيق ومحاكمة مرتكبي الجرائم في ليبيا، وذلك بموجب اختصاص المحكمة، بغض النظر عن وضعهم الرسمي أو انتماءاتهم” ويشدد المركز على أن التحقيقات لا ينبغي أن تقتصر على الحالات التي تنطوي على جرائم من قبل نظام القذافي والموالين له، ولكن أن تمتد للانتهاكات المستمرة من قبل جميع الأطراف.
إن تطبيق التدابير المذكورة أعلاه يعزز بشكل مباشر من حماية المدنيين من الانتهاكات المستمرة وتحقيق حل سلمي في ليبيا. إذ أن أي تطور إيجابي للوضع في ليبيا لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن محاسبة جميع المسئولين عن ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، حتى يفهموا أن لأعمالهم الإجرامية ثمن وكي يضعوا حدًا لتدهور حالة حقوق الإنسان في ليبيا.
كان مركز القاهرة قد ذكر في رسالته المشتركة مع منظمة “حقوق الإنسان أولًا” للرئيس الأمريكي باراك أوباما قبيل قمة البيت الأبيض حول مكافحة التطرف العنيف في فبراير عام 2015، أنه “إذا كان ينظر إلى التعاون الدولي في مكافحة التطرف العنيف باعتباره فقط –أو حتى في المقام الأول– مسألة تعاون ميداني بين الجهود العسكرية والأمنية فسوف يبوء حتمًا بالفشل، حيث ينبغي أن يأتي تعزيز حقوق الإنسان والمساءلة وسيادة القانون في صميم أية استراتيجية مستديمة وفعالة، ويجب أن يُثبت من يرغبون في أن يكونوا حلفاء فعالين في هذا الصراع الحيوي من خلال الكلمات والأفعال على حد سواء أنهم يعون ذلك”.
ويعيد المركز ويذكر اليوم أن مواجهة أعمال العنف المسلح لا يتطلب فقط استجابة أمنية قوية تتوافق مع المعايير الدولية ذات الصلة وتضمن احترام حقوق الإنسان، وإنما يتطلب أيضًا اعتماد مجموعة من التدابير والسياسات لمعالجة اجتماعية واقتصادية، ورفع المظالم السياسية التي خلقت بيئة تعزز ظهور الجماعات المسلحة والإرهاب.