ليبيا ليست مستعدة، غياب التوافق يفاقم الأزمة
الوثيقة الدستورية تدخل في متاهة
رواق عربي : التقرير كاملا
في أعقاب الصراعات المسلحة والحروب الأهلية والثورات الشعبية والاستقلال الوطني، تظهر الحاجة لمعالجة آثار الماضي والانقسامات السياسية، ومحاسبة المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان. وذلك بهدف تعزيز السلام المجتمعي ومعالجة أسباب الاستقطاب؛ عبر تأسيس عقد اجتماعي جديد يعزز الديمقراطية ويحمي الحريات وحقوق الإنسان. وتتم في إطاره إعادة هيكلة مؤسسات الدولة السياسية والقضائية والأمنية، ووضع آليات دستورية للقضاء على التمييز بين المواطنين ومكافحة الفساد، فضلًا عن قواعد التنافس السلمي على الوصول للسلطة وتداولها. لهذا يكون تعديل الدستور، أو صناعة دستور جديد، أحد أبرز المراحل والأهداف السياسية في الدول والمجتمعات التي تسعى لإنهاء النزاع المسلح والتحول لدول ديمقراطية تقوم فيها الأطراف السياسية بحل صراعاتها دون اللجوء للوسائل العنيفة، عبر صناديق الاقتراع في انتخابات حرة وعادلة وفقًا لقواعد الديمقراطية.
شهدت السنوات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة في 1989 عددًا كبيرًا من عمليات بناء الدساتير، ليس فقط في أوروبا الشرقية، بل شهدت العديد من الدول في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا عمليات بناء الدساتير في أعقاب تحولات سياسية جذرية، بعضها نتيجة صراعات.[1] وبرغم الخبرات العديدة المتوافرة الآن في صناعة الدساتير؛ إلا أنه لا توجد وصفة دستورية واحدة يمكنها التعاطي مع السياقات المتباينة والظروف المختلفة بين الدول عند كتابة الدستور. حيث تؤثر السياقات والخبرات المختلفة لكل مجتمع على طريقة اختيار الجمعية التأسيسية أو لجنة الخبراء أو المؤسسة التي ستتولى كتابة الدستور، وما إذا كانت المجموعة التي ستقوم بمهمة كتابة الدستور تتمتع بالاستقلال وتمثل مختلف مكونات المجتمع. كما تتأثر عملية بناء الدستور ومضمونه بالتحيزات السياسية والأيديولوجية للأفراد والأطراف المشاركة في الصياغة، وبقدر التزامهم بقيم العدالة والديمقراطية وبالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وبمدى رغبة الأطراف المتصارعة في التفاوض والوصول إلى تسوية سياسية وبسط السلم وسيادة القانون ومحاسبة المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان وتنفيذ تدابير العدالة الانتقالية.
وتوجد عوامل أخرى مؤثرة مثل التدخل الخارجي وكيفية تفاعل الأطراف المحلية معه، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية وما إذا كانت البلاد تعاني من انقسامات إقليمية وتشهد مطالب بالحكم الذاتي في أقاليم مختلفة. فقد تخشى المجموعات الإثنية والأقليات المختلفة من تجاهل الأغلبية لحقوقها، لذا فإنها تسعى للتفاوض على الحقوق والمطالب خلال مفاوضات السلام وفي مرحلة كتابة الدستور؛ لتجنب تهميشها في المستقبل خلال مناقشات برلمان تحت سيطرة الأغلبية.[2]
في المقابل، قد يأتي التركيز على تحقيق أحد الأهداف الرئيسية لعملية المفاوضات، وهو الوصول لاتفاق السلام، على حساب أهداف أخرى لا تقل أهمية مثل كتابة دستور جيد يحظى بإجماع مختلف مكونات المجتمع. وهو ما حدث في تجربة البوسنة والهرسك؛ إذ أدى التركيز على التوصل إلى اتفاق دايتون للسلام في 1995 إلى عدم بذل الاهتمام اللازم لبناء قواعد الديمقراطية في الدستور بشكل سليم يعزز حقوق المواطنة ويلتزم بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان. وهو ما تم الانتباه إليه في وقت متأخر بعد إقرار الدستور.[3] وبرغم ذلك، فقد يكون من المتعذر خوض عملية بناء الدستور قبل إبرام اتفاق سلام بين الأطراف المتنازعة، وقد يتم الاعتماد في المرحلة الانتقالية على دستور مؤقت يضع أهداف محددة أمام واضعي الدستور الدائم كما في حالة نيبال، وقد تمهد خارطة الطريق المجال لكتابة الدستور، مثلما فتح اتفاق بون لعام 2001 المجال لكتابة دستور أفغانستان. لكن هناك استثناء في حالة موزمبيق حيث قامت الحكومة في 1990 بوضع الدستور أولًا بهدف دفع المتمردين للمفاوضات والسلام.[4]
ويثير الخلاف حول الهوية إشكاليات متعددة حين تسعى الأقليات الإثنية والعرقية والدينية إلى أن يعترف الدستور بلغاتها ورموزها وتاريخها كجزء أصيل من هوية الشعب/الأمة؛ حيث تلقى أحيانًا مقاومة من الأغلبية. كما تثير الهوية والجدل حول تعريفها وتأثيرها على التشريع وحقوق الإنسان خلافات في بعض تجارب كتابة الدستور، مثل الخلاف على الهوية الوطنية في العراق خلال كتابة الدستور بعد إسقاط نظام صدام حسين والغزو الأمريكي. وقد شهدت مناقشات صياغة الدستور العراقي جدلًا حول قضايا الهوية شمل موقع الدين في الدستور، وهو ما أثار قلق دعاة حقوق الإنسان والحريات الفردية.[5] ومؤخرًا تكرر الجدل حول الدين والدولة والهوية في تجارب كتابة دساتير دول عربية أخرى مثل مصر وتونس وليبيا، كما سنرى لاحقًا.
أيضًا فإن إجراء الانتخابات قبل كتابة الدستور، الذي يضع القواعد والأطر المتفق عليها بين الأطراف المختلفة لإجراء الانتخابات وتداول السلطة وصلاحيات الهياكل المنتخبة، قد تكون له في بعض التجارب عواقب وخيمة على موقع الديمقراطية والحقوق والحريات في الدستور. فقد تفرز الانتخابات أغلبية برلمانية لديها موقف عدائي تجاه المنظومة الدولية لحقوق الإنسان ولقيم الديمقراطية؛ وهو ما يظهر تأثيره في طريقة تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور وتعمد إقصاء القوى السياسية والمجتمعية الأضعف.
رواق عربي : التقرير كاملا
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!