إعصار دانيال وكارثة انهيار سدّي درنة (1): استجابة رسمية مرتبكة
ارتبطت درنة في وجدان الليبيين بكونها مركزا حضاريا وثقافيا دائم العطاء. فهي مدينة تتمتع بموقع جغرافي مميّز حيث ترتمي في أحضان الجبل وتستلقي في الآن نفسه على شاطئ البحر. وقد اشتهرت ببساتينها الصغيرة الممتلئة بأزهار الياسمين والفل والريحان وسميت نسبة الى ذلك بدرنة الزاهرة وكذلك بسليلة الماء يقسمها الوادي إلى نصفين ويزيّنها شلالها الصغير وتتمتع بفسيفساء سكانية تمثل أغلب المدن الليبية لذلك تطبعت بالطابع الحضري، يضاف الى ذلك وجود مقابر الصحابة بجانب المسجد الكبير في المدينة مما أعطاها بعدا روحيا حتى سماها البعض بمدينة الصحابة. كل ذلك أضفى على المدينة طابعا خاصا جعل إشعاعها الثقافي تجاوز حدودها الصغيرة ليصل الى كل ربوع البلاد وكان أبناؤها وبناتها من أوائل الخرّيجين والمتعلمين الذين ساهموا في بناء الدولة وتأسيسها. هذه المدينة التي تحظى بمكانة مميّزة في قلوب كل الليبيين، كانت على موعد في الحادي عشر من سبتمبر الماضي لسنة 2023 مع كارثة مروعة لم يسبق لها مثيل بسبب الأمطار الغزيرة المصاحبة لإعصار دانيال والتي أدّت إلى تجميع أكثر من مائة مليون متر مكعب من المياه خلال أقلّ من اثنتيْ عشرة ساعة خلف سدّيها الركاميين القديمين والمتصدّعين منذ عقود واللذين تمّ إنشاؤهما في منتصف سبعينات القرن الماضي لحماية المدينة من الفيضانات والتي كان آخرها فيضان عام 1959 الذي أدى في حينها لوفاة قرابة عشرين شخصاً. غير أنّ هذين السدين (سد درنة وسد بومنصور) اللذين أقيما على بعد كيلومترات قليلة من وسط المدينة لحمايتها كانا سببا مباشرا في مضاعفة الكارثة وإلحاق ضرر فادح طال عشرات الآلاف من سكانها وآلاف المباني وبنيتها التحتية التي طالها الإهمال والفساد طيلة عقود مضت، حيث أن مدينة درنة رغم تاريخها الثقافي وإشعاعها الحضاري إلا أنها تعدّ من المدن المهملة سواء في عهد النظام السابق أو الحالي فالمدينة لا تتمتع بأيّ بنى تحتية جيّدة كطرق وصرف صحي وصرف مياه الأمطار ولا توجد فيها الخدمات المناسبة لها ولسكانها الذين يتجاوز عددهم المائة والعشرين ألف نسمة. وادي درنة الذي كان الممرّ الرئيسي للسيول الضخمة يشقّ مدينة درنة إلى نصفين شرقي وغربي وبه ثمانية جسور تدمّرت كلها يوم الكارثة، علما أن العمارات والأبنية تنتشر على طرفي الوادي وبمحاذاته، وأن العديد منها مخالف بفعل ضعف مؤسسات الدولة في الرقابة على قانونية البناء، مما جعلها عرضة للجرف.
ورغم مرور أكثر من أربعة أشهر تقريبا على وقوع كارثة انهيار السدّين في درنة نتيجة لإعصار دانيال الذي صاحبته سيول جارفة، إلا أن فرق الهلال الأحمر والإغاثة لا زالت تنتشل الجثث المتحللة من بين الركام ولا زال بحر درنة يقذف بعظام الضحايا على الشاطئ.
في هذا المقال، سنتناول بداية الأضرار التي أحدثها هذا الانهيار (والتي تنتقص المعلومات بشأنها إلى الدقة بغياب التعاطي الجدي في رصدها وتحديدها) ومن ثم المعالجات الرسمية في مساعدة المتضررين وذوي الضحايا، لنتناول في جزء آخر إجراءات المساءلة القضائية.
إحصائيات متعددة ومتضاربة
بحسب التقديرات ووفقاً لمصفوفة تتبّع النزوح الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة، تشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 2000 شخص وفقدان ما لا يقلّ عن 5000 شخص اعتباراً من 12 سبتمبر. وقدرت حكومة الوحدة الوطنية، في 13 سبتمبر، عدد القتلى بما يقرب من 6000 شخص، ويقدر الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر أن ما يقرب من 10000 شخص في عداد المفقودين. وعلى وجه الخصوص، فإن الوضع في درنة قاتم، حيث يتجاوز العدد التقديري للنازحين 30,000 شخص من إجمالي عدد السكان الذي يزيد عن 200,000 نسمة. وقدر عمدة درنة في 13 سبتمبر أن عدد الوفيات قد يصل إلى ما بين 18,000 إلى 20,000 شخص. وتفيد المنظمة الدولية للهجرة أيضًا أن 3000 شخص قد نزحوا في البيضاء، و410 أسر و35 مهاجرًا في بنغازي، ونزح 1000 شخص في المخيلي. وفي 11 سبتمبر، تم دفن أكثر من 1000 جثة في درنة وأكثر من 100 جثة في البيضاء – من ضحايا الفيضانات بحسب ملحق التمديد العاجل للاستجابة للفيضانات في ليبيا يناير/مارس 2024 بينما أصدرت النيابة العامة من خلال تحقيقاتها إحصائياتها التي تفيد بأن عدد الضحايا 4540 منهم 3566 مجهول الهوية منهم 420 من جنسيات أخرى وتم التعرف على هوية 974 ضحية منهم 818 ليبيا و156 من جنسيات أخرى.
ومن جهة أخرى، أعلن مركز الاستجابة الطارئة عن إحصائية أخرى تشمل 8000 آلاف مفقود و45 ألف نازح.
هذا التباين في الارقام يعكس أمرين مهمين: أولها حجم وفداحة الكارثة وحجم الأضرار على المستوى الإنساني ومن ناحية أخرى ارتباك الحكومة ومؤسسات الدولة وعشوائية عملها والتي تعاملت مع الأزمة بطريقة انعدمت فيها الشفافية والوضوح خاصة إذا ما عرفنا أن المنطقة المتضررة من السيول هي أحياء وسط المدينة والتي بمحاذاة الوادي وهي تتميز بكثافة سكانية عالية.
الاستجابة الشعبية وردّة الفعل الحكومية
شهدت المدينة بعد ساعات من وقوع الكارثة هبّة شعبيّة واسعة وكبيرة اتّسمت بروح النجدة والعفوية من كافة نواحي البلاد لتقديم العون والمساهمة ما أمكن في تخفيف الأضرار وفق المتاح من إمكانيات بشرية، حيث توافدت شاحنات الإغاثة من كل مكان تورد السلع والمواد والأدوات الضرورية من تغذية وأدوية ومعدّات كما حضر المتطوعون والمتطوّعات من مؤسسات المجتمع المدني وفرق الإغاثة المحلية. ورغم الهبة الشعبية الكبيرة، إلا أن الفوضى والعشوائية والعجز الحكومي والمؤسساتي كلها عوامل أدّت إلى التقليل من آثار هذه المساعدات الكبيرة مما أثر سلبا على توزيع المساعدات وتقديم العون للضحايا وذويهم. على المستوى الرسمي، لم تكن ردّة الفعل والاستجابة تليق بكارثة بهذا الحجم. فمن الأمور المعروفة أن ليبيا من الدول الأكثر تضررا بالتغيير المناخي. فبحسب تقرير لـ”بلومبرغ”، فإن درجات الحرارة المرتفعة ستؤثر في المجتمعات الأقلّ استقرارا في العالم بقوة شديدة. وستصبح الفيضانات أكثر شدة، وذلك بسبب الكميات الإضافية في الغلاف الجوي من بخار الماء بنسبة 7% مقابل كل درجة مئوية من الانحباس الحراري.[1]
لذلك فدولة مثل ليبيا ببنيتها الضعيفة ارتفعت فيها درجات الحرارة خلال الفترة الأخيرة بما يزيد على درجة واحدة منذ عام 1900. وإذا ظلّت انبعاثات الغازات الدفيئة من دون تغيير، فإن متوسّط درجات الحرارة في البلاد سوف يرتفع بنحو 2.2 درجة مئوية بحلول عام 2050، وأربع درجات مئوية بحلول نهاية هذا القرن.[2] ورغم أن موعد إعصار دانيال كان معلوما مسبقا وأن الخبراء نبهوا إلى الخطر الذي يهدّد سواحل ليبيا قبل ثلاثة أيام وبخاصة بعدما ضرب الإعصار سواحل اليونان، إلا أن ردة فعل السلطات الرسمية والخطط التي وضعتها لم تكن بحجم الكارثة بخاصة مع صدور دراسات علمية تحذر من خطر انهيار السدود خاصة في مدينة درنة إضافة لغياب استراتيجية الإنذار والإخلاء المبكر وانتشار الفوضى والارتباك وتغليب المقاربة الأمنية في التعامل مع المشهد.[3]
وهذا ما أشار إليه عدد من الناجين لجهة أنهم كانوا في حالة ارتباك بسبب عدم تلقّيهم تنبيهات واضحة من السّلطات أو تلقيهم تنبيهات متناقضة من سلطات مختلفة في الساعات التي سبقت العاصفة. وينبع هذا جزئياً من الانقسام الحكومي وضعف وهشاشة مؤسسات الدولة وقلة الخبرة وعدم وجود استعدادات منسّقة لحالات الطوارئ. ولم يتمّ إجلاء السكان على طول وادي درنة[4]. وما يؤكد ضعف ردة الفعل الرسمية وعجزها عن مجابهة الكارثة، التقارير والتصريحات الصادرة عن بعض المؤسسات الدولية التي أكدت التقصير والإهمال الحكومي ومنها تصريح رئيس المنظمة العالمية للأرصاد الجوية الذي أكّد إمكانية تقليل هذا العدد الكبير من الضحايا لو تمّ اتخاذ اجراءات عاجلة مثل التحذير المسبق وقيام هيئات إدارة الطوارئ بتنسيق جهود إجلاء السكان .[5]
كما انعكست الأزمة السياسية والانقسام المؤسسي على ردة الفعل الرسمية. فالمدينة خاضعة جغرافيًا لسيطرة الحكومة الموازية المعتمدة من البرلمان ومقرّها بنغازي بينما حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لا تملك سيطرة فعلية على الأرض في شرق البلاد وإن كانت تملك الإمكانيات والموارد المالية. وقد انعكس عدم التنسيق بين الحكومتين رغم فداحة الكارثة على ضعف الأداء وفوضوية التعامل وتعدّد الجهات والمؤسسات على الأرض وتداخل الاختصاصات. وكانت الإشارة الواضحة لتخبّط الحكومة الموازية هو الاجتماع الذي عقدته قبل الكارثة بيومين غابت عنه مؤسسة الهلال الأحمر والهيئة الليبية للإغاثة وهما المؤسستان المعنيتان مباشرة بالتعامل مع مثل هذه الأزمات، بينما حضرت كل الأجهزة الأمنية والعسكرية مما يعكس المقاربة الأمنية في التعامل مع الكارثة حتى قبل وقوعها.
وكان من بين إجراءات الحكومة الموازية تشكيل لجان بعد حصول الكارثة ودفع مبالغ مالية تحت مسمى لجان جبر الضرر. وقد شرعت تلك اللجان في توزيع مبالغ مالية بموجب صكوك مصرفية تفاوتت قيمها المالية بين 20 ألف و 50 ألف و100 ألف دينار ليبي لبعض العائلات المتضرّرة دون تحديد الأسس والمعايير التي وزّعت المبالغ بموجبها. ومن جهة أخرى، كانت ردّة فعل الحكومة الوطنية في طرابلس لا تتماشى مع حجم الكارثة. فقد صرّح رئيسها يوم انهيار السدّين في درنة أننا لا نحتاج فرق إغاثة دولية وبإمكاننا التصدي للأزمة بمؤسساتنا المحلية. وهو ما أثبت الواقع عدم صحته، مما دفع رئيس المجلس الرئاسي إلى معالجة الوضع من خلال إصدار بيان استغاثة عاجل للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية. وقد علقت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن السلطات الليبية رفضت دخول فريق تابع للأمم المتحدة كان من المقرر أن يتوجه إلى مدينة درنة للمساهمة في مواجهة آثار الكارثة التي أصابت المدينة المنكوبة[6].
محاولات حكومية لدعم المدينة
شهدت المدينة طيلة الأيام الماضية محاولات محتشمة قامت بها الحكومة الموازية لمعالجة الإشكاليات في المدينة حيث كلّفت ضابطا برتبة فريق آمر لمنطقة درنة العسكرية والأمنية ليحلّ محلّ مجلس البلدية المحال إلى التحقيق. وقد شرعت السلطات في إزالة العديد من التعديات على المرافق العامة والممتلكات الخاصة ومن ذلك إخلاء الوحدات السكنية الواقعة في مدخل درنة الغربي من قاطنيها و معظمهم من بلدة عين مارة المجاورة بعد أن استولوا عليها بوصفهم قوة مساندة للجيش الليبي في حرب 2018. وصاحب عملية الإخلاء تلك تأييد واسع لدى سكان المدينة باعتباره تنفيذا للقانون واعادة للحقوق إلى أصحابها وخطوة نحو الحدّ من سطوة المليشيات المنتمية للقرى المجاورة. لكن ورغم ذلك الترحيب الواسع فقد تم إسناد عملية استكمال بناء تلك الوحدات السكنية البالغ عددها ألفي وحدة إلى شركات محلية من خارج المدينة بعضها لا يملك القدرة على القيام بهذا النشاط لعدم امتلاكه للإمكانيات البشرية والفنية لمثل هذا النشاط وهم ممن يجري وصفهم بمقاولي الحقيبة مما يضع علامات استفهام حول آليات التعاقد وشبهة الفساد. وعلى غرار لجنة إعادة إعمار بنغازي، شكلت الحكومة الموازية منذ شهر تقريبا لجنة إعمار درنة برئاسة بلقاسم حفتر نجل المشير خليفة حفتر قائد الجيش في شرق البلاد. وأثار هذا التعيين العديد من علامات الاستفهام كون ابن حفتر لا يملك أيّ صفة في الدولة كما لأنه لا يتمتع بأيّ خبرات سابقة في التعامل مع مثل هذه الملف من جهة ومن جهة أخرى يرى البعض أن من الممكن أن ينعكس هذا التعيين إيجابا على المدينة كون المعني ابن قائد الجيش ويستطيع استغلال إمكانيات وعلاقات والده لصالح المدينة وسكانها.[7]
ثغرات وسلبيات صاحبتْ صرف التعويضات
بالرغم من سرعة البدء في عملية حصر الأضرار التي لحقت بالسكان وصرف القيم المالية لهم، إلا أن ذلك صاحبه العديد من السلبيات من بينها أن عدد اللجان المكلفة بالحصر لم يكن كافيا مما ترك الكثير من المتضررين ينتظرون أدوارهم في زيارة اللجان لمواقع سكناهم المتضررة حيث لم تنجز تلك اللجان حتى تاريخ قريب سوى ربع طلبات المواطنين المتضررين مما يزيد من معاناتهم المتفاقمة.
كما أن أشغال تلك اللجان لم تكن وفق تشريعات منظمة لعملها فلم يصدر قانون أو لائحة تضبط إجراءات وقواعد وأسس تقدير التعويضات المقرّر صرفها للمتضررين مما أدّى إلى تفاوت القيم المالية المصروفة للأسر المتضررة. فبعضها صرفت لهم 100 ألف وبعضها 50 الف فيما صرف لغيرها 20 ألف دينار ليشكل تمييزا غير مسند على معايير موضوعية صحيحة، وبخاصة أن القيم المالية المصروفة ليست تعويضا عن قيمة الأبنية المتضررة وإنما هي جبر ضرر لما لحق تلك الأسر من أضرار اضطرتها إلى ترك مساكنها ومعونة لهم على تدبير سكن بديل إلى حين إصلاح ما لحق مساكنهم من أضرار أو إعادة بنائها. ليس ذاك فحسب، بل جرى استبعاد مئات الأسر المتضررة من استحقاق التعويض بحجة عدم غمر شققهم السكنية بالمياه رغم وقوعها بأحياء سكنية تضررت بشدة جراء الفيضان وانعدمت فيها كافة سبل الحياة من كهرباء وماء وصرف صحّي بل ومنها ما منعت السلطات عودة قاطنيها للإقامة فيها بسبب عدم صلاحية موقعها لقربها من مجرى الوادي المتضرّر وتقرير إزالتها كليا. ورغم ذلك كله، منعت تلك الأسر من استحقاق التعويض وتركت لحالها تعاني من مرارة النزوح وهو ما دعا بعض المشتغلين بالقانون إلى التنبيه إلى خطورة ذلك الإجراء بوصفه مخالفا لقاعدة دستورية متمثلة في مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين الذين جرى التمييز بينهم من دون مبرر لأن حاجتهم واحدة في الحصول على قيمة مالية تساهم في توفير بدل سكن مؤقت. وهي حالة تتساوى فيها كافة الأسر المتضررة بصرف النظر عن طبيعة ذلك الضرر وجسامته على الأقل في الأمد المنظور. وهو ما قد يتسبب في رفع آلاف الدعاوى القضائية مستقبلا والتي سترهق كاهل الدولة كل ذلك بسبب عدم إصدار تشريع ينظم أسس وقواعد وإجراءات صرف التعويضات.
كما يعيب الكثير من القانونيين على تشكيل لجان الحصر والتعويض خلوها من أهم الضمانات القانونية المتمثلة في تشكيل لجنة عليا يمكن للأفراد تقديم الطعون أمامها في حالة عدم رضاها عما قررته لجان التعويض الأولية بشأن استحقاقها للتعويض وتقدير قيمته أو بسبب استبعادها كليا من استحقاقه. هذا وتتردد أنباء عن وقوع الكثير من الأخطاء في عمل تلك اللجان بصرفها تعويضات للعديد من غير المتضررين بناءً على تقديمهم بيانات غير صحيحة لم يجر التثبت من مصداقيتها.
ويذكر كذلك تعدد منافذ صرف التعويضات. حيث قامت السلطات بصرف مبلغ 25 ألف دينار نقدا لكلّ من ينتقل بأسرته إلى مدينة بنغازي دون التثبّت من استحقاقه أو ازدواجية حصوله على مبالغ التعويضات.
وفي ذات سياق الفوضى والارتباك، زارتْ لجنة من دولة الإمارات المدينة من دون أن يعرف أحد من كلّفها بتوزيع مبلغ 30 ألف دينار نقدا لبعض الأسر المتضررة دون غيرها وبشكل عشوائي لعدة أيام ثم غادرت البلاد، مما أثار التساؤل لدى الكثير من الأسر المتضررة حول المعايير المتبعة في التوزيع وآليات التعويض.
مرافق متعثرة وخدمات متدنية
ورغم مرور أكثر من أربعة أشهر على وقوع الكارثة إلا أنّ العديد من الأحياء السكنيّة في وسط المدينة لا تزال تغرق في الظّلام الحالك. فبعد مغادرة فرق الصيانة والطوارئ التابعة للشركة العامّة للكهرباء والتي قدمت إلى المدينة في الأسابيع الأولى من الكارثة وساهمتْ بشكل فعّال في حلّ الكثير من المختنقات الفنيّة لعودة التيار الكهربائي لكثير من أحياء المدينة غير المتضررة بشكل مباشر من الفيضان بما قدّمته تلك الفرق من دعمٍ فنّي ولوجستي، إلا أنه وبمجرد مغادرتهم المدينة عجزت فرق الصيانة المحلية عن استكمال دورها في إعادة التيار الكهربائي للعديد من الأحياء المتضررة بسبب ضعف إمكانياتهم الفنية والبشرية مما فاقم معاناة الآف الأسر النازحة التي لم تتمكن من العودة إلى مساكنها لتبقى تحت طائل النزوح داخل المدينة وخارجها.
وفيما يتعلق بالخدمات الأساسية كالصحة والتعليم وغيرها، فقد شرعت الحكومة الموازية والجيش بالإشراف المباشر على استكمال صيانة وتجهيز العديد من المرافق العامة كالمراكز الصحية والمدارس كان بعضها قد خرج عن الخدمة منذ سنوات مضت بسبب التعاقد على صيانتها في ظل الإدارة المحليّة المقالة بسبب شبهات فساد وتعثر استكمال صيانة تلك المؤسسات العامة بسبب التعاقد على صيانتها مع شركات غير ذات خبرة تعود ملكية معظمها لأفراد من ذات القبيلة التي ينتمي إليها عميد البلدية الموقوف ورئيس مجلس النواب. يشار إلى أن بعض المدارس لم تتمكّن من استقبال طلابها منذ ما يزيد عن خمس سنوات، فيما امتنعت مدرسة عبد المنعم رياض في حي الجبيلة عن استقبال طلابها بعد أن اتخذتها شركة المقاولات المصرية مقرا لسكن عمالها ومرآبا لمعداتها الثقيلة مما أخرجها عن الخدمة واضطر طلابها للانتقال للدراسة في مدارس مكتظة بعيدا عن أحيائهم السكنية.
كما يجدر الذكر أن مبنى المستشفى الرئيسي بالمدينة وهو مستشفى الوحدة المركزي لايزال خارج الخدمة منذ ما يزيد عن 15 سنة بسبب توقف استكمال صيانته من قبل الشركة التركية المتعاقد معها بالخصوص رغم بلوغ نسبة الإنجاز به ما يقارب 80 % حسب ما ذكرته بعض التقارير.
ورغم التعاقد مع شركة محلية لاستكمال صيانته إلا أنها لم تباشر أعمالها بسبب البيروقراطية وفشل الإدارة بمستوياتها المختلفة المحلية والمركزية في الوفاء بالتزاماتها الفنية والرقابية مما أدى إلى توزيع نشاط أقسام المستشفى بين عدة مبان غير مؤهلة أساسا لتقديم الخدمات الصحية وهي متفرقة بين عدة أحياء بالمدينة بل منها ما هو خارجها تقريبا ما زاد من معاناة المواطنين.
كلفة الإعمار وتقييم الأضرار والفرص المتاحة
في شهر يناير 2023، صدر تقرير عن البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي حول “التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في ليبيا”. وتضمن التقرير أرقاما مفجعة منها أن كلفة إعادة الإعمار تُقدر بنحو 1.8 مليار دولار وأن تأثير الكارثة قد طال ما يقارب 1.5 مليون شخص – ما يعادل 22% من سكان ليبيا – يعيشون في المدن الساحلية والداخلية التي كانت الأكثر تضررًا.[9] ويحدد التقرير أكبر القطاعات المتضررة وهي قطاعات الإسكان (حيث تضررت 18500 وحدة سكنية أي حوالي 7% من مجموع الوحدات السكنية في ليبيا) والبيئة والتراث الثقافي الليبي، وكذلك قطاعي النقل والمياه. كما قدر التقرير كلفة الأضرار المادية الناجمة عن الكارثة بنحو 1.03 مليار دولار والخسائر بنحو 0.62 مليار دولار. ويمثل إجمالي الأضرار والخسائر البالغ 1.65 مليار دولار 3.6% من إجمالي الناتج المحلي لليبيا في عام 2022.[10]
أما بالنسبة لأثر الكارثة على رفاهة الأشخاص في ليبيا. فقد نزح ما يقرب من 44,800 شخص في البداية ومنهم 16,000 طفل. وتدهورت إمكانية الحصول على خدمات الرعاية الصحية والتعليم، كما زاد انعدام الأمن الغذائي في المناطق المتضررة. وكانت الفئات الأكثر احتياجًا – منهم النساء والأطفال والأشخاص ذوو الإعاقة والمهاجرون وكبار السن – هي الأكثر تضررًا.[11] ويغطي التقييم 20 بلدية، مع تحليلٍ متعمقٍ للمدن الخمس الأكثر تضررًا (درنة وسوسة والبيضاء والمرج وشحات) التي وقعت فيها 85% من الأضرار والخسائر. كما يشدّد على الحاجة الملحة لتركيز جهود التعافي في هذه المناطق.[12]
وفيما يتعلق بإعادة إعمار المدينة على المستوى المحلي، ما تزال الصورة غير واضحة والتخبط والعشوائية مستمرين. فبعد انعقاد مؤتمر إعادة الإعمار في الأول والثاني من شهر نوفمبر الماضي بمدينتي درنة وبنغازي وما رشح عنه من فرص وتكهنات بشأن العروض المقدمة لإعادة الإعمار إلا أنه حتى هذا التاريخ لم يعلن عن أي تعاقد مع شركات أجنبية بالخصوص مما أتاح المجال لمزيد من التشكّك لدى المواطنين في جدّية الإعمار خاصّة مع مرور الوقت وسط انقسام سياسي حادّ بالبلاد أدى إلى تقاذف المسؤولية حول توفير الأموال اللازمة لإعادة الإعمار بين حكومات متخاصمة.
وقد تفاءل بعض سكان المدينة من قدوم شركة مقاولات مصرية منذ الأيام الأولى للكارثة مصحوبة بعشرات الآليات الثقيلة التي دخلت كونها ستساهم في حل المختنقات في المدينة وفتح الشوارع والمسارات وهدم ما تبقى من مبان ومنشآت جرفها الطوفان وتهيئة الشوارع من جديد .
إلا أن البعض الآخر طرح أسئلة موضوعية حول طبيعة العمل المسند إلى هذه الشركات وعن الجهة الليبية التي تعاقدت معها، وعن قيمة ما ستقتضيه مقابل نشاطها، وهي أسئلة مشروعة تعكس حالة الغموض وعدم الشفافية في التعاقدات والتكليفات الحكومية.
كما رحّب بعض الأهالي ببداية عمل الشركة المصرية في إزالة وتجريف كافة المباني والتعديات على المساحات العامة داخل الأحياء السكنية غير المتضررة بمياه الفيضان. إلا أن البعض حدّ من القوة المفرطة التي صاحبت إزالة هذه التعديات وكذلك القطع غير المبرر لآلاف الأشجار المثمرة وغير المثمرة التي كان من الممكن الإبقاء عليها وتوظيفها في حدائق عامة فيما لو أعدّت دراسة جدوى من قبل جهات الاختصاص قبل الشروع في تجريف كل تلك المساحات الخضراء بالمدينة وبما يكفل الحدّ من الآثار البيئية الناجمة عن قطع تلك الأشجار بالمخالفة للتشريعات السارية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ: فهناك من عبّر عن استيائه بسبب قيام الشركة بنقل كميات كبيرة من التربة الملاصقة لمجرى الوادي بالمدينة والتي هي من ضمن التكوينات الطبيعية لمركز المدينة المتضرّر وإلقائها بكميات مهولة في البحر من دون دراسة لجدوى ذلك العمل، الأمر الذي جعل بعض المختصين في المجال البيئي والجيولوجي يحذرون من الآثار البيئية المدمرة لمثل هذا النشاط بوصفه إتلافا كارثيا لطبقات الأرض وتكويناتها الطبيعية مما قد ينتج عنه آثار بيئية يستحيل تداركها مستقبلا. فضلا عن خطورة ذلك بتسببه في تقدم مياه البحر باتجاه مركز المدينة الأمر الذي قد يحدث اختلالا جوهريا قد يمتد إلى العديد من الأحياء السكنية التي لم تتضرر بمياه الفيضان كحيي باب طبرق وباب شيحا على النحو الذي يشير إليه بعض المختصين[13].
[1] https://www.alarabiya.net/aswaq/special-stories/2023/09/24
[2] المرجع السابق
[3] https://alwasat.ly/news/libya/412548 بوابو الوسط
[4] https://www.alarabiya.net/aswaq/special-stories/2023/2
[5] https://defendercenter.org/ar/7181
[6] https://defendercenter.org/ar/7181
[7] مقابلات مع بعض أبناء المدينة .
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!