العنف الرقمي ضد المدافعات والناشطات في ليبيا

مرام محمد I باحثة حقوقية

8 مارس 2023

استغرق نضال المدافعات والمدافعين عن حقوق المرأة عشرات الأعوام ليتم الاعتراف دوليا بأن العنف ضد المرأة هو انتهاك لحقوق الإنسان، لكونه يهين الكرامة الإنسانية المتأصلة للمرأة ويهدد حياتها، ويمس بحقوق الإنسان الأساسية التي تقرها الوثائق الدولية والتشريعات الوطنية. ويُعَدُّ العنف ضد المرأة من أبرز انتهاكات حقوق الإنسان وأكثرها انتشارًا في ظل ضعف أدوات الحماية وعدم كفاية التدابير القانونية. فقد أدانت لجنة حقوق الإنسان العنف القائم على النوع الاجتماعي لأول مرة في عام 1994، وفي العام نفسه تم تعيين مقررة خاصة معنية بالعنف ضد المرأة، ومع ذلك لا تزال الغالبية تتعامل مع العنف ضد النساء بوصفه انتهاكًا لحقوق الإنسان في سياق الأنماط التقليدية للعنف (العنف الجسدي، العنف الجنسي، العنف النفسي، ….إلخ).

ولكن في السنوات الأخيرة، ومع ازدياد استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، من قبل النساء للتعبير عن آرائهن ومناصرة قضاياهن؛ ظهرت قضية العنف في الفضاء الرقمي ضد النساء بوصفها ظاهرة عالمية حازت بعض الاهتمام مؤخرا، على الصعيد الدولي بشكل أكبر، خاصة العنف الرقمي ضد الناشطات في المجالين السياسي والاجتماعي والنسويات والمدافعات عن حقوق الإنسان والمؤثرات في مختلف المجالات. فقد أصبحت النساء، وبخاصة الناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان والمؤثرات، يستخدمن الفضاء الرقمي لإطلاق حملات توعية ومناصرة لقضايا حقوقية عديدة ولقضايا حقوق المرأة، وكلما ازداد استخدامهن لهذه المساحات تصاعدت حملات العنف وخطاب التحريض والتهديدات ضدهن. ولم تكن ليبيا استثناء من ذلك، إذ إنها تمثل بيئة ملائمة لتفشي العنف الرقمي ضد النساء بأشكاله المتعددة (الابتزاز، والتهديدات، والتشهير، والتنمر، والهجوم والاختراق السيبراني) وخاصة ضد المدافعات عن حقوق الإنسان؛ لأنهن نجحن في خلق التأثير في المجتمع من خلال وجودهن في الفضاء الرقمي واشتباكهن مع قضايا بارزة في المجال العام. حيث أفاد تقرير صدر في ديسمبر ٢٠٢١ بأن شركة ميتاMeta تمكنت من إزالة 41 حسابًا على فيسبوك و133 صفحة عامة وثلاث مجموعات و 14 حسابًا على إنستجرام؛ نتيجة انتهاك سياسات الشركة. وأضاف التقرير أن الشبكة التي تقود تلك الحسابات الشخصية والصفحات العامة نشأت في تركيا واستهدفت ليبيا بشكل أساسي، وأن الأشخاص الذين يقفون وراء تلك الصفحات والحسابات يهاجمون صعود المرأة في السياسة والمجتمع والإعلام، حيث أنشأت هذه الشبكة صفحات تدعي أنها تدار من شخصيات عامة من النساء وتقوم بالإدلاء بخطابات ورسائل تحريضية نيابة عنهن، ثم يستخدمون صفحات الشبكة الأخرى للإشارة على هذه المنشورات لانتقادها، من أجل التشجيع على الإساءة ومضايقة النساء.

وإلى جانب ما ورد في التقرير بأن من يقف وراء هذا النشاط شبكة، كان من الواضح لدى الناشطات أن هذه الحملات كانت ممنهجة، فبحسب رأي الناشطة الحقوقية والصحفية نورا الجربي التي كانت هدفًا لهـذه الحملات، فإن تعرضها لحملة شرسة من العنف عبر الإنترنت تزامن مع تعرض العديد من نساء المجتمع المدني والناشطات السياسيات لحملات مثيلة، الأمر الذي دفع العديد منهن إلى تعليق نشاطهن في الفضاء الرقمي خشية أن ينتقل هذا العنف من الفضاء الافتراضي إلى الفضاء الواقعي، ولأن التهديدات التي تلقينها لم تكن فردية تستهدفهن شخصيا، بل امتدت أيضا للتهديد والتشهير بأفراد أسرهن.

وللأسف تمكنت هذه المجموعات من تحريض المواطنين ودفعهم للانخراط في هذه الحملات، وذلك من خلال التعليقات أو توجيه رسائل التحريض والتهديد إلى حسابات الناشطات ومشاركة المنشورات على أوسع نطاق. علاوة على ذلك، شملت الأطراف المُحرّضة، بعض الشخصيات العامة، على سبيل المثال ظهرت رئيسة مفوضية المجتمع المدني في طرابلس، السيدة انتصار القليب، في أكثر من حلقة نقاش على الكلوب هاوس وقامت بالتحريض على الناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان، كما استخدمت صفحتها على الفيسبوك في ذات الغرض. 

وقد أكد تقرير بعثة تقصي الحقائق الصادر في يونيو ٢٠٢٢ أن البعثة استعرضت “عدة رسائل تهديد وتشويه تلقتها ناشطات وشخصيات عامة عبر واتساب وكلوب هاوس وفيسبوك ومسنجر. كما أبلغ عن وجود غرف دردشة مخصصة على كلوب هاوس أو صفحات فيسبوك تنتحل شخصية ناشطات وتحتوي على تصريحات سياسية استفزازية، وهذا يمكن أن يعرض حياتهن للخطر ولا سيما في ظل الاستقطاب في السياق الليبي”.

وتدل شهادة بعثة تقصي الحقائق عن وقائع تتعلق بالعنف في الفضاء الرقمي ضد النساء، وخاصة الناشطات في تقاريرها، على ازدياد الوعي بخطر وتأثير العنف ضد المرأة على الصعيد الدولي، إلا أن ليبيا تعد من الدول المتخلفة عن الركب فيما يتعلق بتقديم تقاريرها الوطنية والإبلاغ عن الممارسات المبتكرة والتدابير الواعدة التي تقدمها الدول كل عام إلى الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ولجنة وضع المرأة، حول مجالات التحقيق والمقاضاة وتقديم الخدمات فيما يخص العنف ضد المرأة حيث لم تقدم ليبيا أي تقرير وطني بشأن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة كدولة طرف منذ ٢٠٠٩.

وبالرغم من أن مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان تلزم جميع الدول وجميع المؤسسات التجارية باحترام حقوق الإنسان وحمايتها، فإن العديد من النساء الليبيات شاركن مع بعثة تقصي الحقائق “شعورهن بالإحباط لأن شركات وسائل التواصل الاجتماعي لا تراقب المحتوى بشكل كاف واستباقي. كما أشرن إلى حاجة منصات التواصل الاجتماعي إلى أن تضم متحدثين باللغة العربية في ضمن العاملين فيها، وتحديدا أشخاصا يفهمون السياق الليبي واللهجة الليبية لإدراك طبيعة التهديدات الموجهة ضدهم وخطورتها”

أما على صعيد السياسات والتشريعات الوطنية، فتفتقر ليبيا لوجود قانون يحمي المرأة من العنف بكل أشكاله، وتوجد بعض النصوص العامة في قانون العقوبات الصادر في مطلع خمسينيات القرن الماضي، ولكنها لم تمنع من تفاقم ظاهرة العنف ضد المرأة في الآونة الأخيرة دون عقاب أو رادع قانوني، والجدير بالذكر أنه تم تقديم مشروع قانون لحماية المرأة من العنف تم العمل عليه من قبل لجنة من الخبراء القانونيين والحقوقيين من المجتمع المدني، يتضمن في مواده حماية النساء من العنف الرقمي، إلا أنه لم يعرض بعد في جلسات مجلس النواب. وفي سياق التشريعات يمكن الإشارة أيضا إلى تجاهل مجلس النواب لمسودة قانون المجتمع المدني المقدمة من مجموعة من منظمات المجتمع المدني، والتي كانت ستوفر ضمانات حماية للناشطات والناشطين في ليبيا. وحتى القانون رقم ٥ لسنة ٢٠٢٢ بشأن الجرائم الإلكترونية، فإلى جانب المآخذ العديدة التي دفعت منظمات حقوقية، ليبية ودولية، إلى المطالبة بإلغائه – نظرا “لتعارضه مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والتزامات ليبيا الدولية، وغياب مبدأ الحوار والتشارك مع مختلف الفاعلين وأصحاب المصلحة عند صياغته”– يمكن أن يضاف إلى تلك المآخذ أن هذا القانون ولد أعمى جندريا؛ حيث لم يلتفت القانون المعني بالجرائم الإلكترونية إلى العنف الرقمي ضد النساء. 

إن عدم اكتراث مجلس النواب بمطالب ناشطات ونشطاء المجتمع المدني، يماثلها لامبالاة إزاء المجتمع المدني من بعض خبراء التقنية الذين يقدمون المساعدة الرقمية لضحايا العنف الرقمي بشكل عام ففي مشهد غريب أعلن رئيس إدارة الاتصال العام في الشبكة الليبية لمكافحة الجريمة الإلكترونية، مهند الجعفري، عن تعليق التعامل مع مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني. وبحسب تصريح الجعفري فإن هذا القرار يأتي “بعد استفزازات من قبل بعض أعضاء هذه المنظمات. كما أنه لا ينبغي لفريق الشبكة تقديم أي مساعدة لهذه المؤسسات والمنظمات. كما أعلنت دائرة المتابعة في الشبكة الليبية، أن بعض أعضاء المنظمات استخدموا بعض الصفحات على فيسبوك لنشر أخبار كاذبة”، وهو ما يعكس الفكرة السلبية السائدة لدى بعض الليبيين تجاه المجتمع المدني وخاصة الناشطات.

ومع ذلك، فإن عدم وجود قانون يحمي المرأة بشكل عام أو قانون يقدم ضمانات لحماية المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان وكذلك عدم وجود نص خاص يجرم العنف الرقمي ضد النساء بوصفه جريمة إلكترونية، ليس ذريعة لتنصل السلطات الليبية من مسؤوليتها عن حماية الأفراد حتى في الفضاء الرقمي؛ حيث صادقت ليبيا على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي يلزم جميع الأطراف وفق المادة ١٧: “١- لا يجوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته، أو شؤون أسرته، أو بيته، أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته. ٢- من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس.” والتصديق على ذلك يلزمها بأن تعكس ذلك في تشريعاتها الوطنية، ولعله أحد المطالب الرئيسة للناشطات الحقوقيات ومنظمات المجتمع المدني النسائية في ليبيا في سنة ٢٠٢٢، ففي تصويت أجراه قسم المساواة بين الجنسين في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا حول خمس قضايا لتكون موضوعا لحملة ١٦ يوما من مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي لسنة ٢٠٢٢ في ليبيا، اختارت ٤٣٪ من الناشطات، اللواتي شاركن في التصويت، دعم قضية التصدي للعنف عبر الإنترنت وخطاب الكراهية الذي يستهدف النساء والفتيات واقترحن أن تكون من بين رسائل الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي: “الحق للمرأة في التعبير عن آرائها السياسية” و”دعوة صناع القرار لسن قوانين ولوائح لحماية المرأة من العنف عبر الإنترنت. وهو ما يدل على وعي الناشطات ومنظمات المجتمع المدني النسائية بخطر ظاهرة العنف في الفضاء الرقمي وآثارها ليس فقط على حياة النساء، بل أيضا على أسرهن ومجتمعاتهن. 

غير أن وعي الناشطات ومنظمات المجتمع المدني النسائية بخطر هذه الظاهرة لا يكفي للحد منها والقضاء عليها، بل لابد من سلسلة من الإجراءات لعل أهمها:

  • إطلاق حملات توعية تبعث رسالة واضحة بأن العنف الرقمي ضد الناشطات هو انتهاك لحقوق الإنسان، ويعد جريمة مع تحشيد جهود الناشطات من المجتمع المدني للقيام بحملات مضادة تتصدى لحملات العنف ضدهن.
  •  
  • تحشيد الجهود والمناصرة مع الجهات التشريعية لتبني تشريعات توفر الحماية للنساء وللناشطات والنشطاء، وكذلك مع الجهات التنفيذية مع مزودي الخدمات (شركات الاتصالات والتقنية) وتذكيرهم بالتزاماتهم القانونية والأدبية تجاه حقوق الإنسان.
  • بناء قدرات مزودي الخدمات ومكاتب الجرائم الإلكترونية تحت وزارة الداخلية من خلال تعميم منظور النوع الاجتماعي فيما يتعلق بالتعامل مع البلاغات المتعلقة بحالات العنف الرقمي ضد النساء.

 

 

 

 

العنف الرقمي ضد المدافعات والناشطات هو انتهاك لحقوق الإنسان

مرام محمد

باحثة حقوقية

للتحميل إضغط على الصورة

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *