الحراك الحقوقي الليبي: إستراتيجيات للاستمرار أم للتلاشي؟
23 يونيو 2021
شهد النشاط المدني والحقوقي في ليبيا طفرة منذ 2011، انبثقت من الداخل وتعززت بعودة النشطاء، الذين كانوا يمثلون تيار المعارضة لنظام القذافي في الخارج، متفائلين بتحسن الوضع الحقوقي وحريات التجمع والتعبير، وخاصة خلال سنتي 2012 و2013. فحسب وصف المعهد العربي لحقوق الإنسان في دراسته عن )واقع جمعيات حقوق الإنسان في ليبيا) “شهدت ليبيا ظاهرة ”انفجــار“ تكوين الأحزاب والجمعيات” في هاتين السنتين، وبالرغم من أن غالب هذه الجمعيات نشطت عند بداياتها في مجال الإغاثة والأعمال الخيرية، فإنها سرعان ما نقلت نشاطها نقلة نوعية، حيث حظيت موضوعات رصد انتهاكات حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة والانتخابات باهتمام هذه الجمعيات؛ وذلك نتيجة تأزم المشهد السياسي وأوضاع حقوق الإنسان في تلك الفترة. وبحسب التقرير العالمي لمنظمة هيومن رايتس وتش عن الوضع في ليبيا في 2014 فإن السلطات الليبية فشلت في إجراء أي تحقيقات في تلك الانتهاكات التي شملت “الاغتيالات سياسية الدوافع والهجمات على المتظاهرين في كل من بنغازي وطرابلس، والاعتداءات على الصحفيين والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، بدعوى الافتقار إلى الموارد الكافية وصعوبة الوضع الأمني”. ويرى بعض النشطاء الليبيين أنه – إضافة لتلك الأسباب- يتحمل بعض الساسة إلى حد ما مسئولية تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب والانتهاكات المنهجية؛ وذلك بسبب قمع الحراك المدني والحقوقي الذي ينادي بانتخابات جديدة وملاحقة المتورطين في جرائم الاغتيالات والخطف، والكشف عن مصائر المختفين قسريًا، ومِن ثَم من مصلحتهم استمرار سياسة القمع.
ولا يجد المطلع على تقرير منظمة هيومن رايتس وتش عن سنة 2020 أي تحسنٍ في أوضاع حقوق الإنسان، بل تدهورت الأوضاع ولم تعد تقتصر الانتهاكات على مخالفة القانون الدولي لحقوق الإنسان، بل شملت أيضا مخالفات للقانون الدولي الإنساني نتيجة للصراع السياسي والمسلح. وكان للنشطاء نصيبهم الوافر من هذه الانتهاكات.
على سبيل المثال، شهد الشهر الجاري (يونيو 2021) اختفاء الناشط المدني، مدير فرع جمعية الهلال الأحمر في أجدابيا، منصور عاطي دون أن تكشف أي جهة عن مصيره. جدير بالذكر أنه سبق استدعاء منصور من قبل جهاز الأمن الداخلي على خلفية تنسيقه لملتقى شباب ليبيا الجامع وإيقاف الملتقى في يومه الأول لمناقشته ملف العدالة الانتقالية، وفي ظل صمت مريب من قبل حكومة الوحدة الوطنية طالب مجموعة من النشطاء والسياسيون في بيان وزراة الداخلية ورئاسة الحكومة بالكشف عن مصير منصور وتذكيرها بالتزامها بتعزيز حقوق الإنسان.
وقد أسفر استمرار استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان في الداخل خلال السنوات العشر الأخيرة عن تغيير في إستراتيجيات عملهم؛ حيث اتجه البعض إلى المنصات الإلكترونية للدفاع عن قضيته، أما البعض الآخر فقد تنبأ مبكرا بأن الاستمرار في معركته من أجل الحقوق والحريات يحتم عليه مغادرة ليبيا، وخاصة أولئك الذين عادوا في 2011 إذ سرعان ما غادروا البلاد مجددًا. كما غادر آخرون رافعين الرايات البيضاء ومعلقين نشاطهم الحقوقي لحفظ حياتهم وحياة المقربين منهم في الداخل متمسكين بفكرة العودة في يوما ما.
تونس: الوجهة الخارجية الأولى
كانت ولاتزال تونس المضيفة الأولى لليبيين المهجرين قسرًا بوصفها الأقرب والأسهل وصولا، ولا تضع أي تقييدات دخول على جيرانها الليبيين، غير أن هناك عوامل خاصة بالنشطاء والمدافعين جعلتهم يحطون برحالهم فيها. فمن وجهة نظر أسامة – وهو اسم افتراضي لناشط حقوقي تعرض للخطف لمدة تقارب السنة على خلفية انتماءاته الإثنية وغادر ليبيا إلى تونس في 2016 – يمكن القول أن المدافعين عن حقوق الإنسان توجهوا إلى تونس في موجتين الموجة الأولى كانت في 2015/2016 أما الموجة الثانية فكانت في 2019. كما كانت تونس لبعضهم محطة انطلق منها إلى وجهة أخرى، ومنهم من استقر فيها؛ وذلك لوجود غالب البعثات والسفارات الأجنبية والمنظمات الدولية المعنية بليبيا فيها. وأضاف أسامة أن وجوده في تونس ساعده على التحرك بشكل أكثر فاعلية والوصول بشكل أسرع إلى الجهات المؤثرة، وهو ما لم يكن ليحدث إن ظل في ليبيا، كما أن ذلك والوضع الأمني يوفران بيئة ملائمة لممارسة العمل الحقوقي مقارنة بالوضع في ليبيا أو مصر.
ولأن غالب المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان غير قادرة على العمل في ليبيا، فمن ثم تستند في تقاريرها إلى مقابلات مع نشطاء مقيمين في تونس، يتمتعون بتواصل جيد مع النشطاء والضحايا في الداخل. ويتواصل غالبية النشطاء في تونس مع الداخل ويجمعون المعلومات من خلال نقاط اتصال محددة وموثوقة، كما أن علاقتهم ببعض النشطاء في الداخل أقوى من علاقة النشطاء ببعضهم في الداخل، وخاصة مع تباين مواقف بعض النشطاء من الحرب الأخيرة. يقول أسامة “هناك منظمات حقوقية صفراء محسوبة على الطرف الذي يوفر لها الحماية؛ وهو للأسف ما تسبب في انقسامات في صفوف الحراك الحقوقي وللأسف تورط البعض في تبرير انتهاكات الجهات المحسوب عليها”.
ومما لا شك فيه أن هناك بعض التحديات التي تواجه النشطاء في عملهم من تونس كالتحديات المالية، وتحديات الوصول لإصدار الوثائق الشخصية وتجديدها، إلا أنه من النادر حصول اعتداءات على النشطاء الليبيين من قبل السلطات التونسية، وحتى وقائع الاعتداءات أو التهديدات التي حدثت مع بعض النشطاء في تونس كانت من قبل أطراف ليبية، فبحسب تقرير الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لسنة 2015 أفاد “بعض مدافعي حقوق الإنسان الذين فروا من ليبيا بأنهم ما زالوا يتلقون تهديدات بالقتل هاتفيًا وعلى صفحات التواصل الاجتماعي. في حالتين على الأقل، تم الاعتداء جسديا على اثنين من مدافعي حقوق الإنسان في تونس وعلى ما يبدو من قبل ليبيين”. وقد تلقت صحافية ومدافعة أخرى عن حقوق الإنسان تهديدات بالعنف الجنسي وغيرها من التهديدات على صفحتها بالفيس بوك. “سوف نأتي إلى منزلك ونهتك عرضك” كما يشير أحد المنشورات على صفحتها. وبعد أن فرت من ليبيا في أغسطس 2014، استمرت في تلقي التهديدات بالقتل عبر الرسائل النصية والفايبر”.
وجهات أخرى
تظل مواقع التواصل الاجتماعي المنبر الرئيس للنشطاء والحقوقيين الليبيين، سواء الذين غادروا ليبيا أو الذين قرروا البقاء فيها، غير أن هؤلاء الأخيرين قرر بعضهم تعليق نشاطه على صفحته الشخصية والمواصلة بأسماء وصفحات عامة افتراضية لطرح قضايا حقوق الإنسان وفضح ومشاركة أدلة الجرائم التي ترتكبها السلطات أو المليشيات. ولعل أكثر من اتبع هذه الاستراتيجية من يندرجون تحت فئة النشطاء المستقلين، أما بالنسبة إلى المنظمات والجمعيات، فقد ركزت أنشطتها على برامج الإغاثة والحملات الخيرية، حتى المنظمات التي تعمل على قضايا التعذيب أصبح نشاطها يقتصر على تقديم المساعدة لضحايا التعذيب كالتأهيل النفسي والعلاج الطبي، دون التطرق لهوية مرتكبي هذه الانتهاكات وتوثيقها والمطالبة بمحاسبتهم؛ بسبب حساسية هذه الملفات التي حتما ستفضي إلى نتائج وخيمة على العاملين عليها.
تقول هاجر عباس (اسم افتراضي) رئيسة منظمة حقوقية نسوية تعمل في مجال النساء المعنفات وتمكينهن داخل ليبيا: “كنا في السنوات الأولى نعلن عن موقفنا من أي واقعة اعتداء على النساء في أي منطقة في ليبيا، ولكن باتت تصلنا رسائل تهديد تصفنا بالفجر والعمالة وتخبرنا بأن نهايتنا ستكون مشابهة لمن ندافع عنهن”، وتضيف: “نحن اليوم لا يمكننا أيضا إدارج منشور نستهجن فيه ما يحدث مع السجينات داخل السجون، أو داخل مقار المليشيات المسلحة، وإنما فقط نكتفي ببرامج ومشاريع تدعم النساء في مجال ريادة الأعمال أو في إطار الجرائم الأسرية”.
ومما لا شك فيه أنه إلى جانب التحديات الأمنية وغياب التشريعات المعززة لحماية النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، يواجه المدافعين تحديات أخرى كالرفض المجتمعي وحملات التشويه والتخوين وغيرها من التحديات التي تعاملوا معها بالإستراتيجيات نفسها، غير أنه على النشطاء والمدافعين أن يعوا أن هذه الإستراتيجيات قد تتحول إلى إستراتيجيات تلاشٍ وفناء، لا إستراتيجيات للبقاء؛ في حال توقُّف التحركات الحقوقية في الداخل؛ وهذا الأمر قد يؤدي إلى تنميط صورة نشاط المجتمع المدني ويجعله مقتصرًا على أنشطة الإغاثة والأعمال الخيرية وتشويه طبيعته على نحو بروكروستي تُقتَل به الخصائص الحقوقية للحراك؛ فيندثر ويغدو من الصعب إحياء الحراك الحقوقي من جديد في الداخل.
[1] قامت حقوقية ليبية بكتابة المقال، وطلبت عدم نشر اسمها لدواعٍ أمنية.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!