تونس: “هيئة الحقيقة والكرامة” توثّق عقودا من الانتهاكات
الأخبارحدّدت كبار المسؤولين المشتبه بهم، وأوصت بإصلاح القضاء والأمن
هيومن رايتس ووتش
(تونس) – قالت “هيومن رايتس ووتش” اليوم إن “هيئة الحقيقة والكرامة” (الهيئة) التونسية نشرت للعموم في 26 مارس/آذار 2019 تقريرها المؤلف من 5 مجلدات، والذي حللت فيه وكشفت عن الشبكات المؤسسية التي أتاحت حدوث انتهاكات حقوق الإنسان على مدى 5 عقود. وثقت الهيئة الدور الذي لعبه الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومسؤولون كبار آخرون في التعذيب والاحتجاز التعسفي والعديد من الانتهاكات الأخرى في حق آلاف التونسيين.
وثقت الهيئة ليس فقط الانتهاكات التي طالت المعارضين السياسيين، وإنما أيضا عائلاتهم، والتي شملت اعتداءات جنسية على زوجات وبنات وجوه المعارضة. كما حددت أسماء المسؤولين الذين يُزعم تورطهم في الجرائم، ومنهم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، الذي اتهمته بالمشاركة في التعذيب لما كان وزيرا للداخلية في حقبة بورقيبة بين 1965 و1969، وطالبته بالاعتذار علنا من الضحايا باسم الدولة. كما وثقت الطرق المختلفة التي اعتمدتها السلطات الأمنية والقضائية لعرقلة عملها ومنعها من الوصول إلى أدلة الأرشيف وتحديد هويات أعوان الشرطة المتورطين في الانتهاكات.
قالت آمنة القلالي، مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في تونس: “يتمثل الاختبار الفعلي لاستعداد تونس لمواجهة ماضيها في الخطوات التي ستتخذها السلطات لملاحقة المتورطين في الانتهاكات استنادا إلى الأدلة التي قدمتها الهيئة، وإصلاح الأجهزة القضائية والأمنية. سيراقب العالم ما إذا كانت السلطات ستفي بوعودها في تنفيذ توصيات الهيئة، بعد أن عرقلت عملها”.
قالت هيومن رايتس ووتش إن على الحكومة التونسية التحرك بسرعة لتنفيذ توصيات الهيئة من أجل ضمان محاكمة المتورطين في الانتهاكات الحقوقية الخطيرة التي شهدتها البلاد. يتعين على الحكومة المضي قدما في إصلاح القضاء وقوات الأمن المتورطة في الانتهاكات، وتوفير جميع الوسائل لـ “الدوائر الجنائية المتخصصة”، التي أنشئت ضمن منظومة المحاكم العادية لتنظر في الانتهاكات الحقوقية السابقة، لتُلزم عناصر قوات الأمن بالمثول أمامها، وحصر اختصاص المحاكم العسكرية بالعسكريين الذين ارتكبوا جرائم عسكرية. كما يتعين على الحكومة تعزيز استقلالية القضاء عبر الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية في التحقيق مع القضاة أو تعيينهم، وزيادة التحقيقات والتدابير التأديبية ضد قوات الأمن الضالعة في الانتهاكات.
اعتمدت تونس “قانون العدالة الانتقالية” في 2013 لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان والفساد بين 1955 و2013. أنشأ هذا القانون هيئة الحقيقة والكرامة، بولاية تدوم 4 سنوات وقابلة للتمديد لسنة واحدة، للتحقيق وكشف الحقيقة واقتراح إجراءات مساءلة وجبر ضرر وإعادة تأهيل.
كما كلّف القانون الهيئة بإحالة قضايا التعذيب والاختفاء القسري وغيرها من الانتهاكات الخطيرة إلى 13 دائرة قضائية متخصصة أنشئت ضمن منظومة المحاكم العادية لمحاكمة المتورطين في انتهاكات حقوقية خطيرة منذ 1955، والتي ستبقى قائمة بعد انتهاء مدة عمل الهيئة. كما سمح القانون للهيئة بالوساطة في القضايا المتعلقة بالفساد والجرائم الاقتصادية بناء على طلب متهم أو متضرر أو الحكومة.
تونس هي الدولة الوحيدة التي أنشأت هيئة لكشف الحقيقة في أعقاب الانتفاضات العربية، وهي الثانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد سبقتها “هيئة الانصاف والمصالحة” في المغرب التي أنشأها الملك محمد السادس في 2004 للتحقيق في الانتهاكات المرتكبة أثناء الحكم الاستبدادي لوالده الحسن الثاني.
استلمت هيئة الحقيقة والكرامة أكثر من 62 ألف تظلّم لانتهاكات لحقوق الانسان حصلت على امتداد 60 عاما من تاريخ تونس، تراوحت بين انتهاكات تعود إلى حرب الاستقلال وأخرى حصلت بعد الثورة. كما عقدت الهيئة 14 جلسة استماع علنية لضحايا انتهاكات حقوقية وفساد، تم بثها على الهواء تلفزيونيا. وأحالت الهيئة أكثر من 170 قضية تضمّنت انتهاكات حقوقية جسيمة على الدوائر المتخصصة، فانطلقت المحاكمات في العشرات من هذه القضايا، لكن هذه المحاكمات تم تأجيلها عديد المرات بسبب رفض المتهمين المثول أمام المحاكم.
قالت القلالي: “لا يجوز السماح للمتورطين في الانتهاكات الحقوقية الجسيمة بالإفلات من العدالة بسبب رفضهم المثول أمام المحاكم التي وجهت لهم استدعاءات، لأن ذلك يقوّض سلطة القضاء. إضافة إلى الحاجة لكشف الحقيقة، يتعين على الحكومة تنفيذ توصيات الهيئة إذا كانت تريد الحفاظ على سيادة القانون في البلاد”.
محاولات عرقلة عمل الهيئة
قالت الهيئة في تقريرها الختامي إنها تمكنت من كشف الحقيقة بشأن الجرائم الممنهجة رغم عدم تعاون السلطات الحكومية، وحتى رغم عرقلتها لعمل الهيئة. كما قالت إن المؤسسات الحكومية عطلت عملها عبر منعها من الوصول إلى أرشيف الرئاسة ووزارة الداخلية، وتجاهل طلباتها المتكررة في الحصول على معلومات حول هوية أعوان الأمن المتورطين في التعذيب. قالت أيضا إن المحاكم العسكرية رفضت تزويد الهيئة بالملفات القضائية المتعلقة بالقضايا التي أحالتها الهيئة على المحاكمة.
في مايو/أيار 2018، صوّت البرلمان ضدّ ممارسة الهيئة لصالحيتها المتمثلة في تمديد ولايتها سنة إضافية. لكن هذا التصويت لم يمنعها من الاستمرار في عملها، رغم الصعوبات. كما سنّ البرلمان قانونا بشأن “المصالحة الإدارية”، بالاستناد إلى مبادرة رئاسية، ألغى بعض الجرائم الاقتصادية من نطاق عمل الهيئة ومنح عفوا لبعض فئات المسؤولين السابقين الفاسدين.
من المرجح أن تواجه توصيات الهيئة مقاومة سياسية كبيرة. بموجب قانون العدالة الانتقالية، يتعين على رئيس الحكومة إعداد خطة عمل واستراتيجيات لتنفيذ توصيات الهيئة في غضون عام من نشرها تقريرها الختامي، لكن رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد لم يقبل الى حد الان استقبال أعضاء الهيئة ليسلموه التقرير بشكل رسمي. وكان الشاهد قد أعلن أن الهيئة فشلت في مهمتها، وانتقد المحاكمات الجارية في الدوائر المتخصصة، ووعد بتمرير قانون جديد للعدالة الانتقالية.
كما ينص قانون العدالة الانتقالية على أن يُنشئ البرلمان لجنة خاصة مهمتها مراقبة تنفيذ التوصيات ومدى فاعليتها. هذه اللجنة لم تر النور بعد.
مقترحات الإصلاح الأساسية
مكافحة الإفلات من العقاب
من بين توصياتها العديدة، قالت الهيئة إن على السلطات التونسية القضاء على الافلات من العقاب على الانتهاكات الحقوقية عبر ضمان محاسبة الجناة المزعومين.
خلصت الهيئة إلى أن ثقافة الافلات من العقاب متجذرة في تونس، وأن التغييرات المؤسسية والقانونية التي اعتُمدت بعد الثورة لم تكن كافية للقضاء على التعذيب وغيره من الانتهاكات الحقوقية الخطيرة. كما أوصت بتعزيز المحاسبة عبر منح الدوائر المتخصصة الـ 13 التي أنشئت ضمن منظومة المحاكم العادية صلاحية محاكمة المتورطين في الانتهاكات الحقوقية الجسيمة بعد إحالتهم من الهيئة عليها.
قالت الهيئة إنه ينبغي توفير جميع الوسائل والحماية للدوائر المتخصصة حتى تقوم بعملها دون مضايقة أو تدخل، وهذا يتطلب تنفيذ الشرطة لاستدعاءات المتهمين الصادرة عنها واعتماد تدابير تأديبية ضدّ جميع محاولات النقابات الأمنية عرقلة عمل هذه الدوائر من خلال دعوة المنتسبين إليها إلى مقاطعة جلسات المحاكمة. كما يتعين توفير حماية كافية وأمن وظيفي لقضاة الدوائر المتخصصة ليتمكنوا من تأدية مهامهم.
كما قالت هيومن رايتس ووتش ومنظمات غير حكومية أخرى إن على السلطات التونسية دعم عمل الدوائر المتخصصة التي تواجه عراقيل متعددة، مثل عجزها عن إلزام المتهمين والشهود بالمثول أمامها لأن الشرطة لا تنفذ الاستدعاءات الموجهة للمتهمين الذين يرفضون التعاون معها. جلسات المحاكمة تسير ببطء شديد، وتم تأجيلها في العديد من المرات. انتقدت نقابة أمنية واحدة على الأقل هذه المحاكم واعتبرت أن هذه الأخيرة “تشوّه سمعة” الأجهزة الأمنية، ودعت أعضاءها إلى مقاطعتها.
المحاكمة الأولى التي دارت في هذه الدوائر المتخصصة انطلقت في 29 مايو/أيار 2018 بمدينة قابس، وتعلقت بالاختفاء القسري لكمال المطماطي، وهو ناشط اسلامي اعتقلته الشرطة في 1991. لم يحضر أي من المتهمين الـ 14 هذه المحاكمة. عقدت الدائرة المتخصصة بقابس 3 جلسات أخرى، وكانت كل مرة تؤجل المحاكمة بسبب غياب المتهمين، رغم استدعاءات المحكمة.
واجهت محاكمات أخرى جرت في الدوائر المتخصصة في نابل وقابس وقفصة وتونس والكاف نفس العراقيل، ولم تتمكن من إلزام المتهمين بالمثول أمامها لأن أغلبهم تجاهلوا ببساطة الأوامر الصادرة عنها والشرطة لم تفعل شيئا لتنفيذ هذه الأوامر. خلق هذا الوضع احباطا لدى الضحايا الذين لطالما تمنوا مواجهة الذين أساؤوا لهم في المحكمة.
الإصلاح المؤسسي والقانوني للهيئات القضائية والأمنية
خصّصت الهيئة فصلا للإصلاحات المؤسسية الضرورية للقضاء وقوات الأمن لتجنب الانزلاق مجددا إلى الممارسات المسيئة، بالنظر إلى الدور الذي لعبته سابقا في اعتقال آلاف المعارضين والإساءة إليهم ومحاكمتهم. أوصت الهيئة، من بين أمور أخرى، باعتماد تشريع يحصر صلاحية القضاء العسكري في الجرائم العسكرية التي يرتكبها عسكريون، ويسحب منه كل القضايا التي يوجد فيها متهم أو ضحية من المدنيين. لا زالت المحاكم العسكرية تحاكم المدنيين، وتمت محاكمة عديد المدونين بتهمة “تحقير الجيش” بموجب الفصل 91 من “مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية”.
كما أوصت الهيئة بتعزيز سلطات “المجلس الأعلى للقضاء” الذي أنشأه البرلمان في 15 مايو/أيار 2015، والذي تتضمن صلاحياته تعيين وتأديب وترقية القضاة. من أهم بواعث القلق التي حددتها العديد من المنظمات الحقوقية النظام التأديبي الخاص بالقضاة، بما أن القانون الجديد يسمح لوزير العدل بفتح تحقيقات في سوء سلوك القضاة عبر جهاز “التفقدية العامة” الخاضع لسيطرته. أوصت الهيئة بمراجعة القانون المنشئ لجهاز التفقد هذا عبر جعله خاضعا للمجلس الأعلى للقضاء بدلا من وزارة العدل.
أوصت الهيئة أيضا بتعزيز التدابير التأديبية الداخلية لمعالجة السلوكيات السيئة المزعومة للشرطة لضمان تحقيقات فعالة وشفافة. كما أوصت بإنشاء هيئة تظلم مستقلة للتحقيق في انتهاكات وسوء سلوك قوات الأمن. رغم إقرارها بأن تونس قطعت شوطا هاما في اعتماد قوانين تحتوي على ضمانات أقوى ضدّ سوء المعاملة، مثل القانون رقم 5 الذي يكفل حق الاتصال بمحام منذ لحظة الاحتجاز، حددت الهيئة ضمانات هامة أخرى مطلوبة، ومنها وضع مزيد من الكاميرات في مراكز الشرطة لمراقبة عمل الشرطة، وتكليف وزارة العدل بالإشراف على الشرطة العدلية بدلا من وزارة الداخلية.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!