سياسات مكافحة الاتجار بالأشخاص في ليبيا: أمنية أم حقوقية؟

د. جازية جبريل شعيتير

جريمة الاتجار بالبشر تشمل كثير الصور والأشكال للعبودية المعاصرة؛ منها الاسترقاق والاستغلال (السخرة) وكذلك (تجارة الأعضاء) تشمل كذلك (استغلال الأطفال في الأعمال اليدوية والتسول) إضافة إلى (استغلال الفتيات في العمل الرعائي خدمة المنازل والاستغلال الجنسي الرقيق الأبيض ولا تستبعد صورة (استغلال الرجال في الأعمال الشاقة وفي الاعمال المسلحة الارهاب).

وترتبط بها جرائم خطيرة جدا مثل: الفساد وغسل الأموال والجرائم المنظمة بأشكالها كافة. بيد إنها ترتبط ارتباط لا يقبل التجزئة بجريمة تهريب المهاجرين مما يجعل الهجرة السرية “اللا نظامية” شرطا مفترضا لقيام جريمة الاتجار بالبشر في ليبيا.

وبنظرة سريعة على الإطار القانوني الليبي نلاحظ إنه واجه هذه الجريمة منذ إصدار قانون العقوبات في 1953؛ ونلاحظ تفرقة المشرع الليبي، حينها، بين نوعين من الاتجار بناء على المصلحة المحمية؛ فإذا كانت المصلحة المحمية المهددة بخطر الإصابة بضرر هي الحرية الشخصية طبقت مواد نصوص الفصل الأول” جرائم الرق” من الباب الرابع ” جرائم ضد حرية الأفراد” من الكتاب الثالث الرق في قانون العقوبات الليبي، المواد 425 وما بعدها. الاستعباد والتعامل بالرقيق والاتجار به.

أما إذا كانت المصلحة المحمية المهددة بخطر الإصابة بضرر هي الحرية الجنسية والعرض والأخلاق طبقت المواد المتعلقة بالاتجار بالنساء جنسيا المواد 418 وما بعدها من قانون العقوبات الليبي، مثل الاتجار بالنساء على نطاق دولي وتسهيله.

ومثل هذه النصوص قاصرة “في الوقت الحالي” عن الحماية المثلى ضد جريمة الاتجار بالبشر؛ نظرا لعدم فاعليتها في تطبيق سياسات الزجر، وعدم شمولها لسياسات المنع والوقاية، وعدم اعترافها بسياسة الحماية للضحايا. فهي مبنية على فلسفة أمنية والنظام الإجرائي الجنائي فيها يجعل الدعوى الجنائية بين طرفين وهما المتهم (غالبا يمثله محامي الدفاع) والدولة (تمثلها النيابة العامة دائما) ولا اهتمام بالضحية؛ بينما تؤكد السياسة الجنائية الحديثة والمعايير الدولية المثلى أن مكافحة الاتجار بالبشر وجريمة الهجرة غير الشرعية المرتبطة بها يجب أن تبنى على سياسات حقوقية إنسانية.

أما القوانين الخاصة التي المتعلقة بمكافحة الاتجار بالبشر فهي؛ 

  • قانون 19 لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة، وإن كان الاتجار بالبشر لم يرد صراحة في أي من مواده ولكن يمكن تطبيق مواده على بعض صور الاتجار بالبشر مثل المادة 4 منه والتي تنص على معاقبة من يرتكب فعل من أفعال المجرمة في القانون بقصد الحصول على منفعة مادية أو غير مادية مباشرة أو غير مباشرة بالحبس الذي لا يزيد عن سنة وغرامة لا تزيد عن 10 ألاف دينار وتضاعف العقوبة لتصل للسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات إذا ارتكبها من ينتمي لعصابة منظمة لتهريب المهاجرين. ولكن قانون رقم 19 لا يمكنه التصدي لجريمة الاتجار بالبشر لإنها لم تكن من بين الجرائم الواردة في ذهن المشرع حينها ولذلك لم ينص عليها صراحة في أي مادة من مواده
  • قانون 5 لسنة 2022 بشأن مكافحة التجريم الإلكتروني في المادة 43 حيث قررت عقوبة السجن لكل من أنشاء موقعا أو نشر معلومات على شبكة المعلومات الدولية أو أي نظام إلكتروني بقصد الاتجار في الأشخاص أو تسهيله أو التعامل فيه؛ ولكن للأسف خلا القانون من أي تنظيم إجرائي فاعل في مواجهة هذا النوع من الاتجار بالبشر مثل: منح صلاحيات استثنائية للضبطية القضائية في سبيل مواجهة جريمة الاتجار بالبشر كتمكينها من المراقبة الإلكترونية للمعطيات، واستعمال أساليب التحري الخاصة؛ أهمها التسرب الإلكتروني بهدف التسريع في عملية البحث والتحري ومواكبة التطورات الحاصلة في مجال هذه الجريمة من حيث ارتكابها عبر الوسط الافتراضي.
  • قانون رقم 24 لسنة 2023 م بشأن مكافحة توطين الأجانب في ليبيا الصادر عن مجلس النواب، للأسف الشديد لم يشر بأي حال من الأحوال لجريمة الاتجار بالبشر إلا إذا شكل سلوك الجاني ما يمكن اعتباره إيواء للأجنبي أو تشغليه أو تمكينه من الدخول بقصد التوطين في ليبيا، وقررت المادة 3 من القانون لهذا الفعل عقوبة السجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات وغرامة لا تزيد على عشرة آلاف دينار.

وبالرغم من إن ليبيا قد وقعت في 13/11/2001 على كل من: اتفاقية الأمم المتحدة لقمع الجريمة المنظمة عبر الوطنية، وعلى البرتوكول الخاص بمكافحة تهريب المهاجرين، والبرتوكول المتعلق بمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وقد صادقت عليهم جميعا في 24/9/2004. كما إنها قد صادقت على البروتوكول العربي لمنع ومكافحة الاتجار بالبشر وبخاصة النساء والأطفال الملحق والمكمل للاتفاقية العربية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية في 18 يناير 2006، وهي مستهدفة بالاستراتيجية العربية لمكافحة الاتجار بالبشر منذ 15 فبراير 2012؛ إلا أن المشرع الليبي ومنذ ما يزيد عن عقدين( 2004/2024) يراوح في مكانه، ولم يدرك مدى خطورة هذه الجريمة، ولم يخط خطوة نحو الأمام بإصدار قانون خاص لمواجهتها، وإن كانت توجد عديد من مشاريع القوانين المقدمة من السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية ومثالها المشروع المقدم من وزارة العدل في 2013، والمشروع الأحدث المقدم لمجلس النواب بتاريخ 2021. ولعلنا نحتاج حاليا لاستعراض تحليلي للإطار القانوني للهجرة والاتجار في ليبيا وتحديثه بغية تعديله تمهيدا لإصدار قانون خاص بمكافحة الاتجار بالبشر.  

وفقاً للسياسات المثلى الشمولية لملف الاتجار بالبشر ينصح بالتركيز على سياسة الوقاية والمنع قبل سياسة المكافحة بالتجريم والعقاب، وعليه فإن ليبيا تحتاج إلى: ـ

  • إرادة سياسة لتبني مشروع كبير لدعم وتطوير المؤسسات الليبية لمكافحة هذه الجريمة وتيسر العدالة للناجين من الضحايا وتنفيذ بنود الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر من خلال إعداد البحوث والدراسات وتنظيم وعقد المؤتمرات والبرامج التدريبية والحلقات العلمية والندوات.
  • كما وجب التفكير جديا في إنشاء هيئة سيادية مستقلة يوكل لها ملف مكافحة الاتجار بالبشر وتضم إليه ملف التهريب والهجرة اللا نظامية ويكون من أهم أعضائها مكتب النائب العام الذي يجمع القدرة التنفيذية والرقابة القضائية والخبرة العلمية وذلك أسوة بالتجربة المصرية في المادة الأولى من القرار 192 الصادر بتاريخ 2017 بشأن إنشاء لجنة وطنية تنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، كما يحبذ العمل على إنشاء صندوق مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر وحماية المهاجرين والشهود استهداء بالتجربة المصرية في القرار رقم 369 لسنة 2023 بشأن إنشاء صندوق مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر وحماية المهاجرين والشهود؛ يتولى تقديم مساعدات مالية ونفسية وقانونية للمهربين المهاجرين والشهود والمجني عليهم، وتمويل برامج الرعاية والتأهيل لهم، وبالأخص الرعاية الصحية الجسدية والنفسية لاسيما فيما يتعلق بالنساء والأطفال غير المصحوبين، والمساهمة في تمويل تسهيل الإعادة الآمنة للمهربين المهاجرين الأجانب إلى بلادهم.
  • تقديم الدعم اللوجستي والخبرة والتدريب والتأهيل اللازم لأفراد حرس الحدود الليبي وتوفير الإمكانيات المادية ليقوم بمهامه في المواجهة الوقائية؛ حيث لدى ليبيا حدود برية مع 6 دول (مصر والسودان والجزائر وتونس وتشاد والنيجر) تصل إلى 4348 كيلو متر تقريباً. 
  • التركيز على توفير إيواء مؤقت لضحايا الاتجار بالبشر أو المهاجرين اللا نظاميين ويمكن لوزارة الشؤون الاجتماعية بالتنسيق مع المحاميين العاميين في كل دائرة استئناف أن توفر مراكز حماية ودمج اجتماعي للضحايا، كما يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تلعب دورا كبيرا في الشأن.

ولعل أهم الحاجات العاجلة لهؤلاء الضحايا هي؛ تحديد الهوية، الغذاء والملبس ومستلزمات النظافة الضرورية، الرعاية الصحية، ومساعدات طبية طارئة، الدعم النفسي، استعادة الاتصال بأسرهم، تيسر الوصول للعدالة بحيث يجازى الجاني ويعوض المجني عليه.

  • العمل على إصدار دليل توجيهي بالممارسات الجيدة والإجراءات الفضلى لمكافحة الاتجار بالأشخاص وضمان حماية الضحايا.
  • تدريب معمق (تأهيل وتطوير) لقدرات العاملين في قطاعات العدالة الجنائية حول مكافحة الاتجار بالبشر والهجرة اللا نظامية، بالأخص تدريب وتأهيل أعضاء النيابة العامة في مجال حماية ضحايا هذا النوع من الجرائم وتحديدا الضحايا في وضعية الهشاشة مثل الأطفال والنساء وذوي الإعاقة والمرضى وكبار السن.

ولا بأس من التوصية بإنشاء محاكم ونيابات متخصصة (بجريمة الاتجار بالبشر) بعد تقييم تجربة القائمة منها (نيابات ومحاكم الهجرة غير الشرعية) وتحديثها وتطويرها.

  • ولأن جريمة الاتجار بالبشر جريمة منظمة عابر للحدود فإن كل هذه الجهود لن تكلل بالنجاح ما لم تولي الأجهزة المختصة الاهتمام للتعاون الدولي الأمني والقضائي، مثل: المساعدة القانونية المتبادلة من أجل تسليم المجرمين والقبض عليهم ومقاضاتهم.

لعل هذه التوصيات تساهم في رسم سياسات فاعلة قانونية وحقوقية في مواجهة جريمة الاتجار بالبشر وتحافظ على ورقة التوت من السقوط، وتحفظ ماء وجه الإنسانية بحرصها على أبجديات المدنية الحديثة؛ ليصير الحديث عن تجارة الرقيق ماضيا تخجل منه البشرية لا حاضرا يمارس بكل قسوة …

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *