تحديات المجتمع المدني : مسارات التضييق وفرص البقاء ..
منصور عاطي/صحفي وحقوقي
في ظل تعرقل المسارات السياسية في المشهد الليبي يشهد المجتمع المدني تحولاً مصيريًا في بنيته وطبيعة نشاطه وانحسارا في حيّز العمل والتغبير ، مما وضعه أمام جُملةٍ من التحديّات ، بدايةً من وصم المفاهيم وتحييدها عن مفهومها الصحيح ، مروراً بالشلل التام في الأطر القانونية والمسارات التشريعية الموصلة لها ، وصولاً الى ( ثنائية الوئد ) المتمثلة في الممارسات والإجراءات التعسفية والقمعية الممارسة من قبل الأجهزة الأمنية من جهة ، والتشويه الممنهج والتخوين الذي يطال النشطاء والمدافعين من قبل التيارات الدينية الراديكالية والأصولية من جهة أخرى ، تغذيها ” الجيوش الإلكترونية ” الموالية للسلطات الحاكمة ، وعندما نعدد هذه المراحل نحن لا نأتي بجديد فيما يعانيه المجتمع المدني في ليبيا ، ولكن نحاول التذكير باستمرارية هذه التحديّات طيلة الفترة الماضية، مما أنتج أعراضاً جديدة على الجسد المدني من حيث الفعالية ومدى تماسك البنية الداخلية له كمؤسسات وتوجهات أفراده كنشطاء .
لماذا لم يصدر القانون، ومن أجهض الفكرة؟
لا تزال مقترحات القوانين المقدمة من قبل منظمات المجتمع المدني حبيسة أدراج البرلمان، وسط غياب أدنى رغبة في طرحه على جدول أعمال البرلمان ” على الأقل ” طيلة الفترة الماضية وحتى وقت كتابة هذا المقال، ويُعتبر هذا الفعل في مضمونه تجاهل واضح لما نص عليه الإعلان الدستوري في مادتيه ( 14 _ 15 ) من ضمان واضح وصريح لحرية التجمع والتنظيم وتكوين الجمعيات ،علاوة على أن الإعلان الدستوري ذاته قد ألغى كل القوانين والقرارات التي تتعارض وتخالف نصوص الإعلان ، أي بمعنى آخر أن قانون رقم 19 لسنة 2001 والذي أستندت عليه إدارة القانون مؤخرا بالمجلس الأعلى للقضاء وجعله مصدراً لتنظيم عمل المؤسسات وحاولت نزع الشرعية عن جميع المؤسسات التي أنشئت بعد سنة 2011 وطعنت في قانونية وجودها ، مما جعل المجتمع المدني يعاني من فراغ قانوني ينضم عمله ويضمن حقوقه، مع إستفحال الإنقسام المؤسسي الإداري بين مفوضية المجتمع المدني شرقا وغربا وما أنتجه من صراع وتنازع للصلاحيات الجغرافية، مما جعل الفرصة سانحة لمليء هذا الفراغ الإداري من قبل السلطات بنية الهيمنة والسيطرة على العمل المدني، ولعل ما قام به مدير إدارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بديوان رئاسة الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا إجراء جائر والمتمثل في تعميم رقم 5803، والذي طلب فيه من الإدارات المختصة في ليبيا سحب تراخيص جميع المنظمات غير الحكومية التي أنشئت منذ عام 2011 كان بداية باكورة التضييق ، ليترتب عليه العديد من التعديات القانونية والإدارية ، ومنها قرار رقم ( 312 ) لسنة 2023 الصادر في شهر ” مايو ” من قبل حكومة الوحدة الوطنية بشأن تشكيل لجنة ما أسمتها ” دعم وتنظيم عمل منظمات المجتمع المدني ” والذي يصادر بشكل صارخ كل صلاحيات المفوضية ونقل تبعيتها للسلطة وان كان تم الغائه فيما بعد بالحكم القضائب 272/2023 ، أما في الشرق فيبدو واضحاً التنازع بين وزارة الخارجية التابعة للحكومة الليبية وبين مفوضية المجتمع المدني ببنغازي حول أحقيّة التعامل مع المنظمات الدولية من الناحية التنظيمية وإعطاء أذونات لمزاولة الأنشطة وحرية الحركة داخل النطاق الجغرافي للحكومة.
حصيلة كل ما حدث ويحدث هو أمرٌ واضح تسير نحوه السلطات بخطة محكمة ، الأ وهو إجهاض فكرة المشروع المدني وجعل تبعيته للحكومة بشكل مباشر.
” زوّار الفجر ” .. العودة المُحزنة للقمع
يبرز التحدّي الأمني كأخطر التحديات من حيث الضريبة، حيث يواجه النُشطاء والمدافعين إجراءات تعسفية من إعتقالات خارج نطاق القانون وإخفاءٍ قسّري وتعذيب وأحكام جائرة بالسجن دون الحق في محاكمات عادلة، علاوة على التشهير المتعمد على صفحات الأجهزة الأمنية.
حيث يبدو الاتفاق على القمع بين الحكومتين واضح من خلال أذرعها القعمية وأبرزها ” جهاز الأمن الداخلي ” على ضرورة إسكات الصوت المدني وتجريم كل من يطالب بالمباديء المدنية كالإنتخابات أو المصالحة والعدالة الانتقالية وحق التجمع والتظاهر، بل ويتعدى الأمر لأبعد من ذلك ، ليوضع كل من ينتقد سياسات وممارسات سلطة ما موضع الاتهام والملاحقة والتنكيل، يتزايد هذا القمع مع عودة ظاهرة ” الوشاة ” المتمثلة في ما يشبه ” المجندين ” المدنيين داخل الأوساط المدنية وتقديم تقارير على حركة النشاط العام وطبيعة ما يتم تداوله بل وتأويله أيضاً ، وليس ما حدث للدكتور فتحي البعجة ورفاقه ببعيد، الذين أودعوا السجن دون محاكمة من شهر أكتوبر السنة الماضية وحتى هذا الوقت ، هذا الاعتقال التعسفي والذي أودى بحياة الناشط السياسي ورئيس فرع مركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية ببنغازي في ظروف غامضة لم يتم الكشف على ملابسات التحقيقيات إن وجدت ، وسط تجاهل لمناشدات المنظمات الحقوقية بفتح تحقيق شفاف وعلني لمعرفة أسبابه مقتله. وحدث ويحدث كل هذا على خلفية ” تقرير كيدي “. وما يدل على منهجة القمع في منظومة الحكم في ليبيا هو إستمرار الاعتقالات للنشطاء بالأخص في المناطق الواقعة تحت سيطرة القيادة العامة شرق وجنوب ليبيا.
” مجتمع مدني موازي ” ماذا حدث بعد التفاوض ؟
ظهرت في الآونة الأخيرة على الساحة المدنية تغيرات واضحة في المواقف والأدوار على صعيد المؤسسات والأفراد، مما أضعف العمل المدني وجعله ينحرف عن مساره. فمنذ السنة الماضية بدأت خطة ” إستدراج ” النشطاء من قبل السلطة ضمن عمليات تسوية واسعة قامت بها السلطات في شرق البلاد وغربها ، لإفراغ العمل المدني من محتواه وتأثيره، وتوفير مساحات وبدائل للعمل المدني تحت وصاية ناعمة، ويظهر هذا جليّاً في الخطاب المدني الذي بد عليه التراجع من حيث المواجهة ونقد ممارسات السلطة، بل تعدى الأمر ” للتطبيل” لها مقابل إمتيازات مالية وإستحداث مراكز للدراسات وجمعيات موازية ظاهرها العمل المدني وباطنها التدليس والتبعية، والدخول في صفقات على حساب الحريات والحقوق التي باتت موصومة من قبل ذات النشطاء التي أصبحت ذممهم مرهونة للقرار السياسي والعسكري، فقد أنشئ لوء طارق بن زياد التابع للقيادة العامة للجيش على سبيل الذكر لا الحصر ” جمعية خيرية ” ودعم مركز للدراسات وقامت السلطة بسحب العديد من النشطاء تحت دعوة ” العودة الى ظل شجرة الوطن ” رغم العديد من الصحفيين والمدافعين والمدونين القابعين تحت ” ظل الزنزانة”، هذا التطور الجديد وضع المجتمع المدني في تحدي التماسك والتمسّك من حيث المباديء والمطالب ، وأصبح لازماً عليه أن يحدد مساره بين المهادنة والمعارضة ، بين التبرير والتنديد ، والى حين تحديد نتائج هذه المعركة المضنية ، لا نستطيع أن نفعل شيء حيال ضياع العديد من فرص البناء والنهوض، الجدير بالذكر أن المجتمع المدني يخوض هذا التحدي وسط قلة الوعي التنظيمي والحركي مما يضعف فرص التماسك البنيوي على المدى القريب في الداخل.
الجدير بالذكر أن كل ما سبق ذكره من ممارسات ومراحل لعملية القمع والتضييق الممنهج لم ( تُنهي ) فاعلية المجتمع المدني بالكامل ، وإن أضعفته على صعيد التطبيق ، وهذا ما يجعل الباب موارباً والأمل محاذياً لعمليات إصلاحية وإعادة ترتيب الأولويات التي يجب على المجتمع المدني النضال من أجلها بشكل جماعي وموحد ، لإنقاذ ما تبقى من أمل ، وإنعاش ما تبقى من روح ، في حالة أشبه بالإنبعاث الجديد للعمل المدني ، ولكن هذا يتطلب خطوات رزينة ومدروسة ومخطط لها بشكل صحيح وتتسم بالوضوح والشفافية ومنها :
- عقد لقاءات موسعة لتقريب وجهات النظر بين المنظمات فيما يخص المشاريع المقترحة لقوانين تنظيم عمل مؤسسات المجتمع المدني المقدمة والاتفاق على مقترح واحد منقح في صيغته النهائية، وإطلاق حملة مناصرة واسعة والعمل على كسب تأييد من جميع الفئات الفاعلة ذات الصلة لضمان صدور القانون المرتقب بصيغة لا تتعارض مع روح العمل المدني.
- إجراء مراجعة نقدية لعمل المجتمع المدني، وتقييم مكامن الضعف والخطأ على حد سواء، والخروج برؤية توافقية لطبيعة العمل وسط المتناقضات والمخاطر المحيطة، وتحديد ما يشبه بمدونة أخلاقية لمبادئ توضيحية لعلاقة المجتمع المدني بالسلطة وكذلك علاقته ببعضه البعض ( التنموي _ الخيري _ الحقوقي _ … الخ ) وإنهاء حالة القطيعة التي تمارسها المنظمات على بعضها للخروج من العزلة الاجتماعية التي بدت تغيّم على الأجواء المدنية ، مع الأخذ بعين الإعتبار مسألة الفروقات بين العوائق في شرق البلاد وغربها وجنوبها.
- محاولة خلق جسر متين لإستمرار العمل المدني ، من خلال توسيع دائرة التطوع والانتساب ، والتخلي عن فكرة ” الإمتلاك والهيمنة ” التي تسيطر على بعض المؤسسات، وتطبيق مبدأ التداول السلمي وإعطاء فرص لتولي المسؤولية وتفويض السلطة لدماء جديدة ، فكما يبدو أن المعركة لا زالت مستمرة وتحتاج الى سياسة النفس الطويل.
- وقبل كل هذا يجب الإنتباه على نقطة في غاية الأهمية ، الأ وهي أن التكامل بين المجتمع المدني الليبي في الداخل والخارج من أهم المقومات والعوامل التي تحافظ على التوازن والاستمرارية وتشكيل هوية المجتمع المدني ، إذ يعمل المجتمع المدني في الداخل على تعزيز فرص القبول والوصول وتهيئة الأرضية اللازمة مع المجتمع المحلي ، وبالمقابل المجتمع المدني في الخارج هو الصوت العالي المطالب بالحقوق والحريات والداعم للعمل والرافض للقمع ، إذا يوفر كل منهما مساحة للآخر لا يستقيم الأمر الإ بحدوث كلاهما معاُ ، وأن هذا التكامل لطالما تعرض للشيطنة والتشوية ومحاولة خلق قطيعة بينهما ، يجب التركيز وتعزيز العمل في هذا الاتجاه ، والإ فأنه لن يكون ثمة أمل ، لا هنا ولا هناك .
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!